علي الخزيم
أطنَبَ مُعلم النصوص الأدبية بالحديث عن تفاصيل مرحلة من حياة عُمر بن أبي ربيعة المخزومي القرشي؛ من أشهر شعراء قبيلته ومن أبرز شعراء الدولة الأموية وعَرَفه القاصي والداني آنذاك بإجادته لفن الغزل والتشبيب بالنساء، وكالمعتاد بنهاية الحصة يُقرِّر المُعلِّم حفظ مقطوعة مناسبة للشاعر مدار الحديث، هنا يكون المُعلِّم قد قطع على الطلاب (صغار السن) صَفو الاستمتاع بالرواية العاطفية وتدفق المشاعر التي تَنْثَال بين الأبيات الراقية الرقيقة، فيشعر الطلاب حينها بنوع من تعكير المزاج لا سيما مع التكليف بالحفظ، هنا أذكر أن طالباً ظريفاً قد علَّق بقوله باللهجة الدارجة: (هم اللي فالِّينَها وحِنَّا اللي نحفظ)! ولمن لا يعرف اللهجة فإنه يقول: إن أولئك الشعراء كانوا مُنغمسين بالمَلذَّات ونحن الذين نُكلَّف الآن بحفظ شعرهم! ولأن البداية كانت بأبي الخطَّاب ابن أبي ربيعة فإنه انتهج نموذجاً غزلياً يُسمى النَّسيب والتَّشبيب؛ وهناك نوع ثالث هو الغزل المنقسم إلى (عذري وصريح)، فأما النسيب فهو الذي يجمع بين الغزل والتشبيب فيكون بين المحب ومحبوبته والأمور الجارية بينهما، ودأب كثير من شعراء العرب باستهلال القصيد بالنسيب بذكر الديار والأهل والأحبة فلعل اسمه مُشتق من النَّسب، والتشبيب: التّغزُّل بذكر محاسن المرأة والتصريح بصفات المحبوب وربما إشهاره، والغزل الصريح يخالف العُذري؛ فهو غزل يتغنَّى فيه الشاعر بأكثر من امرأة ويُبرز محاسن جسمها كما صنع ابن أبي ربيعة، غير أن العُذري ما كان عفيفاً يقتصر على بث اللواعج والأشواق، وسر تلك التسمية أن ممن اشتهر به (بنو عذرة) بالعصر الأموي ويُرجِع بعض المتخصصين السبب إلى تأثير الإسلام وتزكيته لقلوبهم، ثم انتشر وتعداهم إلى غيرهم.
على أن هذا الشاعر لم يكن مُتفرداً بهذه الصفة من التَّنعم واستثمار الشعر لمآربه وميوله ومتعته؛ فقد عُرفت كثير من الأسماء لشعراء سلكوا ذاك الطريق رغم ما به من مزالق ومعايب يأنفها ذوو النُّهى وعقلاء القوم، وربما كان بعض الخلفاء والقادة من المسلمين يعاقبون المُسرفين المجاهرين بذاك السلوك، حتى فيما يُسمَّى بالعصر الجاهلي كان القوم يجتنبون هذا الانحدار.
وإذا كانت مناهج التعليم بعقود مضت - وربما بعضها ما زال - يُركِّز على أشعار نخبة من شعراء قدماء العرب ممن ذاع صيتهم في بيئاتهم الأدبية الشعرية، وشهد لهم المتذوِّقون والعارفون بالشعر وأبوابه وطُرقه؛ بإجادة القصيد والحذق بالدخول لمداخله وفتح مغاليق فنونه؛ ومن ثَمَّ الإبداع والتحليق بآفاق بحوره وشدو نَشِيده وعذب نَغَمه وبلاغة سَبْكِه: فإن من حق الأجيال الحاضرة (من شُعراء ومُتذوِّقين) أن يجدوا بمناهج التعليم ما يشهد لهم بشاعريتهم ويعترف لهم بها، ونقلها عبر دروس الأدب العربي للناشئة والشباب، فهي رصيد شعري أدبي وإنتاج فكري يجب أن يُحفظ ويرصد، وأن نُعَوِّد ذائقة الجيل الجديد تَلقِّي إبداعات طبقات الشعراء العرب المُعاصرين وممن سبقوهم بأجيال قريبة، وعدم الاكتفاء بالأُمسيات الشعرية، وأرى أن على وزارات التعليم والثقافة والأندية الأدبية والبرامج الإعلامية المُتخصصة مسؤولية كبيرة للمُضي بهذا المشروع الوطني العربي، وللنهوض بثقافات الأجيال اللاحقة وحفظ نتاج الأجيال المتعاقبة فهي أمانة أدبية تستحق الاهتمام.