د.فوزية أبو خالد
مفارقة
أرهفتُ سمعي وتابعتُ كالعدد الكبير الذي يبدو بعضه تابع وبعضه تتبع حديث د.سعد الصويان في إجاباته العميقة والعفوية معاً على الأسئلة الاستطلاعية والأسئلة المعمقة التي قام بطرحها الإعلامي الدرِب عبدالله المديفر على عالم الاجتماع والإنثروبولوجي أستاذا وباحثا. وباجتهاد ضروري وإن لم يطلبه أحد يمكن أن أقدم قائمة تقريبية مختصرة بالمواضيع التي تناول الحديث عددا منها.
ويأتي ذكرها هنا كمفارقة بين تعدد محاور لقاء برنامج الصورة لتلك الحلقة وسعة أفقها وبين أحادية الكثير من التعليقات السلبية التي جاءت في أعقاب المقابلة وضيق أفقها. وذلك في محاولة لاحقة لطرح السؤال الاجتماعي والثقافي عما يتسبب في وجود مثل هذه المفارقة وتكررها.
محاور اللقاء
تناولت المقابلة المشار إليها تجربة ابتعاث د. الصويان للدراسة في الخارج وصدمتها الحضارية في الستينات الميلادية كشاب صغير يخرج من مجتمع رعوي ريفي للتو تبدأ ريعيته لمجتمع صناعي رأسمالي صرف ، تحدث أيضا عن صدفة تخصصه الدراسي النادر وقتها في علم الأثنروبولوجيا وعن عملية العمد اللاحقة في نقل هذا العلم إلى الحقل الأكاديمي السعودي وتحول الطالب إلى رائد في محاولة إدخال هذا المجال العلمي الى جامعتنا، تناول عمله البحثي المضني على مدار ربع قرن في دراسة الصحراء وطبيعة مكونها التفصيلي كحالة تاريخية وجغرافية من العمران الاجتماعي وكحالة جمالية وقيمية من العمران الثقافي مما يشكلا بجناحيهما العمران البشري لأهل الصحراء وخاصة على أرض نجد التي خصها ببحث شعرها النبطي وموروثها الشعبي مع شيء على ما يبدو من الدراسات المقارنة التي ذكر فيها ملامح من مشترك الجذر الثقافي الأسطوري الميثدولوجي بينها وبين مجتمعات أخرى من بلاد حوض البحر المتوسط الغربية /اليونان. هذا بالإضافة لتطرق اللقاء لعمله التعاوني البحثي بجانب العمل بجامعة الملك سعود كعضو هيئة تدريس في كل من مركز الملك فيصل الثقافي و دارة الملك عبدالعزيز.
يضاف لهذه النقاط من مخرجات ذلك اللقاء تلك الأسئلة الذكية والاجابات التي لا تقل عنها ذكاء في الكشف عن بعض الوقفات الموقفية المحددة في مسيرة الصويان كباحث موضوعي وكمثقف عضوي كتعبيره عن موقفه النقدي من التعصب القبلي وتعارضه بحسب معرفته العلمية وليس بالضرورة موقفه السياسي مع مفهوم الولاء والانتماء لدولة وطنية بالمعنى الحديث.
البحث عن أفق
هذه هي مجمل محاور اللقاء الجوهرية وحتى الجانبية للقاء المشار إليه والتي أرى أنها كان يمكن أن تشكل منطلقات لقراءة معمقة لراغبي التحاور بموضوعية في حزمة المواضيع التي أثارها الحديث لولا مع الأسف لم تجر من البعض محاولة لي أعنقة الجياد النافرة وتحوير الحديث بصراحته وشجاعته العلمية والأدبية من مجال لأفق تحاوري إلى حلبة صراعية ضيقة.
والسؤال أو بالأحرى التساؤل الذي يشكل دافعي للكتابة عن الموضوع كما ذكرتُ خصوصا بعد أن تكررت محاولة تحويل (الساحات التحاورية إلى خانة تهجمية) مثل ما حدثت بعد الهجمة على د. الصويان، الهجمة على د. ملاك الجهني هو:
لماذا تقوى في مجتمعنا تلك النزعة العدائية تجاه النقد الموضوعي وإن كان بأسس علمية أو نتيجة بحوث ميدانية لماذا نعجز عن تقبل الرأي المغاير للمعهود أو السائد الاجتماعي والسياسي والقيمي ونعتبره تطاولا ولا نكتفي بذلك بل نعمل على شخصنته وإخراجه من سياقاته العامة لندخله في انفاق مظلمة ورطبة وضيقة.
ليبدو الأمر وكأنه تصفية حسابات مكبوتة تجاه حرية الفكر بتوجيه الضربات لمن يتجرأ على محاولة الاستقلال الفكري أو كأنه استكثار على المجتمع أن يكون له حق التفكير والتعبير خارج الصندوق.
ويبقى أنه على افتراض حسن النية في تلك الحملات التي تستهدف رموزا ثقافية بعينها أو بعمومها أياً كان فكرها أو مواقفها كتابا وكاتبات أو من المنتمين للمجال الأكاديمي أو أياً من مجالات المعرفة والثقافة لمجرد أنها تطرح رأيا علميا أو موقفا فكريا جدليا بطبيعته يؤسس لحرية الفكر والتعبير فإن السؤال الأصعب في هذه الحالة هو السؤال التالي : هل يمكن أن تعتبر مثل هذه المواقف المتوترة تجاه رأي المثقف وإن كان ما يقوم به لا يعدو استعراضا موضوعيا لأفكار معرفية أو نتائج بحثية.. مؤشرا على السلطة العميقة المعيقة لتلك الترسبات المجتمعية المركبة تجاه حزمة من القضايا ومنها التعصب بأشكاله القبلية كمثال د. سعد ، والتعصبات الجندرية (النوع الاجتماعي ) كمثال د. ملاك الجهني وسواهما من عصاب الفكر والتعبير؟
والواقع أنه كما أن حديث د. الصويان لعبدالله المديفر لم يكن الا تعبيرا عن مواقف حوارية جرى تحويلها لمواقف تهجمية مشخصنة ، فإن الحديث النقدي العميق الذي قامت فيه د. ملاك الجهني بتبسيط نظريات علمية دقيقة وتفكيكها بتمكن العالمة العارفة والباحثة الموضوعية الجادة من خلال برنامج يوتيوب «جَولان» مع محمد الشثري لم يكن إلا تعبيرا عن آراء نقدية تنحو لاستقلالية فكرية جرى التهجم عليها بشخصنة الموقف على هوية الأنثى وليس على حوار فكري ندي.
وهذا في رأيي يستحق الفحص البحثي عن طبيعة هذه الترسبات المجتمعية المركبة تجاه حزمة من القضايا ومنها التعصب بأشكاله وغيرها. فعلى جمالية التحولات السلمية التي تأتي بقرارات سياسية إلا أن مثل هذه الترسبات وأبعد يبدو أنها لا زالت تقبع بقوة تحت قشرة ما نراه من تغير بما لن يتحلحل لا بفعل التحولات السريعة وحدها ولا باللجوء للقمع.
وهذا في رأيي ما يجعل من الضروري بمكان للمحافظة على هذه المكاسب المعطاة من فتح باب مراجعات عميقة وصنع خبرات حوارية طويلة الأمد وعدم التردد في طرح الأسئلة وتوسيع دائرة المشاركة في محاولة البحث عن آفاق توافقية في العمل الثقافي والوطني.