عبدالمحسن بن علي المطلق
وأي ذكرى تماثل (غياب)شمسنا الساطعة...
.. أن /
يصعد المرء على أُفق من حوله، ثم يسابق في بيئته المحدودة، فإذا هو كالمفرد العلم بين مجتمعه، ومقام كهذا لا يلفى صنوان ممن حوله يُحاكيه.. فضلاً أن يباريه، فتلك لعمري هي أمّ الإبداع(1) وأبوه..
ليس هذا فقط!، بل إن تأتيه دُنيا فلا يعطي اهتماماً لإغرائها فضلاً عن أن تغيَّره، خاصة وأنها أتته بجوّ كان الفقر عنواناً بارزاً، وفوق ذلك زاد من دفع تلك النفس..
بل.. حتى حين وقع ببعض المزالق بقي على شموخه الذي عليه قبلُ صارع ليناله، فكأنك تذكر بحاله وتلك المزالق /
رمدٌ وتفعل هذا بالعدا..!
كيف لو عُفيت من ذاك الرمد
هنا نقول عن مثله أن الصفوة من الصالحين همُ الدّرر بكل عصر.. مما بعد القرون المفضّلة، كما أثبتت الآية {ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ} (13) سورة الواقعة، فقد كان صاحبنا من أولئك القليل، والقليل هنا تعني لم يقارب أفقه إلا نوادر، ممن (قد) تسمع عن محمود الصفات لكنه بالمنطقة الفلانية، فما يسعفك لإيصال مرامك لمطاولة شأوه مما حمدته به سوى حديثِ أنبئ (.. إِنَّ في بَنِي فلانٍ رَجُلًا أَمِينًا) متفق عليه، فقد كان هذا كذلك، ولم يسابقه بذاك المضمار أحد، بل حسبه أنه ما تتبع نموذج أُثر ممن حوله، فالبيئة يومئذ تقبع مجملها بفقر مقدع!، إلا وهو المغدق حتى يوم كان بظروف لا تسرّ، بل إنه لم يتسنّهْ مما.. مرّ عليه، حين قُدر عليه رزقه، إذ ظلّ على منواله لم يحِد عنه..
فقد كان يتسامى على أحواله الصرفة كي لا يتغير عما عرف عنه جملةً ممن يطرق بابه خوفا أن تضيع فراسة من أمّ إليه راجيا، مُخفيا ما يلاقي، متجرّعا وحده آثار جوانح ما يُلفِي
فهذا حال نوعيةٍ فذَّة (2)..، ما عبّر المتنبي عن انفرادها بــ...
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسامُ
ولا غرو..
فهو ممن تشرّب العلم قبل أن يفيض لديه الخير الوفير، وبالتأكيد وهو في درسه ذاك تحسبه وقف وقفة المتمعّن بدلالة آية (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ)، والتي رفدت هممهم بزيادة (..وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (9) الحشر، من هذه الآية والنصوص متضافرة بهذا الشأن.. تجده أخذ مستلهما وامتلأ نهماً ليقف عليها همّته.. متى ما يحلّ على أحواله امتحان كم يُكرم من ينجح فيه فكان عند حُسن الظن ولا نزكّي على الله أحدا، وعلى هذا فقد أكرمه المولى - تعالى-.. بعد أن اجتاز وبمواقف - تكررت- حظّ النفس، فزاده ربه وبما أفاض عليه تحسبه نعّمه.
هذه المناقب أُضيف إليها ما قلّ أن تجتمع عنده، من عفوٍ عرف به، فكم ممن وجد عليه وحين تجلَّى له عن ذات ناصعة، عاد يصبّ الملامة داخله.. فتكاد تثبّطه خُطاه خجلا، لولا تباشير ينثرها صاحبنا على دربه لترفده، فأنعم بالرفد والمرفود.
ومن ناحية متممة ما تجده في ذكره الذي عليه ونسيان (بل تغافل) ما له، فهذه المنقبة اشتهرت عنه على نحو ما قبل (حدّث عن البحر..) لأنه له في هذا صولات تحسب، وجولات كم أُثني بها عليه، هل أزيد في جلاء عمَّن كان مثالاً قلَّ أن يبارى في عصره، وإلى ما بعد رحيله الذي يوافق اليوم أربعة عقود تامة، تحديدا في 23 / 7 / 1403 هـ.
(أبو عبدالله) من أهل الله، ولا أجرؤ أن أقول خاصَّته، فقد تكون مغالاة مني.. فأستغفر الله عن مزايدة.. تغلب على بنان (الابن).
هذا الابن الذي درس هذه الشخصية بعيدا عن طور الأبوّة، وبناء على قول دارج (ما تعرف خيري حتى تجرّب غيري) فقد جرّبنا في أكبر المعطيات، أعني مدرسة الحياة..
وقد أزفت السنة الأربعون على الرحيل، لنخرج ببعض معطيات لولا الحياء من الله ومن ثم أن يقال بمقالتي مبالغة لسطرت عنها، ما لا تبلغه نوح النائحات...
فـ(الشيخ علي) ليس فقط أبي!، بل أستاذي بالحبابة، هذا إن امتلكتها، وأسوتي بالطيبة ان كان بي بعضها، ومثالي الغالي بالعفو، والأفق العالي سماحةً.. مما لا أظن أني بلغت شذرات أقصد درجات ربوة كعب.
تلكم اللقطات، وإن شئتم قلت من صفحات ما علقت، وعقلت.. من مسيرة لأبي، وحبيبي، وصفيي ومدرستي بحق..
فـ(أبي) كان طالب علم...فارتقى، وذا بعض مال..فاغتنى، ومحباً لمناقب الخير.. فحاذاها، حتى كاد يملكها.. برمّتها..
فـ/ عن ماذا أحدثكم؟
وأنا ما زال القلم يهتزُّ بيدي، لكأني أملي به عن أسطورة(3)، فربي عفوك إن تجاوزت
..ثم /
أَستَغفِرُ اللَهَ لِشَخصٍ مَضى..
كانَ نَداهُ مُنتَهى ذَنبِهِ!
وَكانَ مَن عَدَّدَ إِحسانَهُ..
كَأَنَّهُ أَفرَطَ في سَبِّهِ.(4)
ف/ بالفعل لو كان بيننا اليوم لما سمح بما أمليت، ولا رضي (مطلقا) بما به أدليت لكنه منذ ذلك اليوم في ذمّة الله..
وما بقي لنا إلا المآثر التي نحاول أن نحاكيها والآثار التي أودعنا نسير عليها، فهي تبقى بأعناقنا ك(ذمم) نُـذمّ على إهمالها(5) مثلما نذمّ إن لم نحاول أن نتربى عليها، ولو لأنفسنا -على الأقل- قبل غيرنا..
لكن عذرا(6) يا أبا الأيتام:
والرمل والشيبان..لا غبّر عودها(7)
يا حبيبنا، لم أجد ما أزيد، عدا..
يا أبي.. إنَّ تاريخَ طيبٍ
وراءك يمشي، فلا تعتبِ
وعلى اسمِكَ نمضي، فمن طيِّبٍ
شهيَّ المجاني.. إلى أطيبِ(8)
رحمك الله «أبا عبدالله»..الشيخ/ علي بن محمد بن صالح المطلق
- ليلة عيد الفطر 1371 / آخر رجب 1403 هـ-
فاليوم قاب قوسي أن تُطبق على رحيلك السنة الأربعون..
ولا أحسب بعدك من مُعين، نستند عليه أو (مَعِـين) ماءٍ كي نرده..
الهوامش:
1- الإبداع هو (البناء على غير مثال سابق)..
2- فذّ.. فَرْد، لا مثيل له، فريد من نوعه، له مزايا التَّفوُّق.
3- أسطورة قيل هي: السيرة التاريخية.
- أو (*) ظاهرة جماعية تعبر عن تأملات الجماعة وحكمتها-، لكن التعبير المقارب (فلان جاوز القنطرة)
*) بعض المفردات لها أكثر من معنى، وحسب (السياق) ما قد يختزل المعنى المراد.. من بين تلكم
4- لأبي الطيب... المتنبي
5- ف.. كيف بالتفريط بها؟!
6- من الأدب أنه (وإن) كان لك عذر..!
فإنه يلزمك أن تعتذر
7- رحمك الله أبا عامر- الحوطي..-
8- نزار توفيق القباني