كانت أطراف جبل سلع الواقع شمال غرب المسجد النبوي من منازل بعض فروع قبيلة الخزرج، وبعد هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة، ثم وفود طوائف من القبائل الأخرى لمناصرة دعوة الإسلام؛ استقرت فروع من تلك القبائل مثل: جهينة وبلي وغفار في أطراف جبل سلع وما حوله، مع إخوتهم من الخزرج، وابتنوا بها البيوت والآطام، واختطوا بها المساجد، ومنها مسجد جهينة وبلي، ومسجد بني غفار.
وقد ذكر بعض المؤرِّخين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى في بعض تلك المساجد؛ قال المؤرِّخ جمال الدين المطري (ت741هـ)، وهو ينقل رواية لابن زبالة (ت 199هـ): (وروى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بالمسجد الذي عند بيوت المطرفي عند خيام بني غفار، وأن تلك كانت منازل آل أبي رهم كلثوم بن الحصين الغفاري -رضي الله عنه-...)(1).
ثم ذكر المطري أن هذه الناحية غير معروفة اليوم -أي في عصره -، ولا تسعفنا نصوص ابن زبالة أو غيرها من كتب تاريخ المدينة وتراجم أعيانها وقبائلها في القرون الأولى في معرفة المطرفي الذي تُنسب له تلك البيوت أو معرفة قبيلته، بل إنه لا يوجد أي ذكر لبيوت المطرفي هذه قبل هذا الخبر الذي نقله المطري، واختلف بعض المؤرِّخين الذين نقلوا عنه فقال بعضهم - كابن الضياء (ت854هـ)(2)، والنهروالي (ت990هـ)(3)-: بيوت المطر، . ثم جاء صاحب كتاب «عمدة الأخبار» أحمد بن عبدالحميد العباسي المتوفى في آخر النصف الأول من القرن الحادي عشر، أي بعد عدة قرون من اندثار تلك الآثار وتغيُّر التركيبة السكانية لمدينة المصطفى، وحاول تعيين أماكن تلك المساجد المندثرة؛ إلا أنه عندما ذكر بيوت المطرفي وقع في إشكالية تشابه الأسماء، فقال: (ومنها المسجد الذي عند بيوت المطرفي، والمطارف حي من العرب، وهم قضاة العرب إلى الآن، موجودون قضاتهم، ويحيى بن المطارف(4) أو المطرف حي منهم)(5).
أقول: وهؤلاء المطارفة الذين ذكرهم وعاصرهم العباسي، ووصفهم بأنهم قضاة العرب - أي القبائل كما يفهم من عبارته - هم فرع من ولد مُرير من بني علي من مسروح من قبيلة حرب، لهم ذِكْرٌ وشهرةٌ في وثائق محكمة المدينة المنورة في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريين، ومن هذه الوثائق وثيقة مؤرخة في 10-6-980هـ ورد فيها: (موجب تحريره أنه بين يدي مولانا الحاكم خلافةً حضر عوض بن مبارك بن مكي المدني، واشترى لنفسه بماله من غريدل بن سعيد البدوي المُطرَفي العلوي؛ فباعه ما هو له وفي ملكه بالشراء الشرعي ... إلخ)(6).
وهؤلاء القضاة، ويقال لواحدهم ابن طُريِّف والمُطرَفي أيضاً - كما تنص وثائقهم - اشتهروا بالقضاء العُرفي بين الناس في منطقة المدينة المنورة، ثم استقروا في وادي الفُرَع، وتوارثوا القضاء كابرًا عن كابر حتى بداية حكم الملك عبدالعزيز. ويُعتبر نص العباسي ووصفه لهم أول إشارة تاريخية نصت على ممارستهم القضاء العرفي، وقد اطلعتُ على وثيقة محلية نادرة لأحد أقدم قضاتهم وهو سعيدان المُطرَفي، ويتضح من تاريخها أنه معاصر للعباسي، وننشر هنا نصها وصورتها لأول مرة.
نص الوثيقة: (الحمد لله تعالى، وكذلك حضر عمير بن مسيب، وأقر بما ادعى به عُتيق، ووجَبَ عليه ما وَجَبَ على عُتيق، والشهود على البيضان يوم وجبت الدَّين على عمير بن مسيب، اشتور هو وعواد وعتيق، وقالوا بعد مشورتهم: ما نحلف لأن نحن مِدِين(7) على هثيم؟ والقاضي أوجب على عمير ما أوجب على عتيق في لفظ الدِّين، وشهد صقر بن جهيم المكذبي وشهد ناجي بن أحمد المطرفي ومبارك بن حديد الثميري وشهد أحمد بن ناشي الثميري وشهد سعد بن جبير العمري وشهد عويد بن حويثان الثميري والقاضي سعيدان المُطرَفي والشهود كثير ....؟ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. حُرّر ذلك يوم رابع عشر من شهر رمضان المعظم سنة 1058هـ)(8).
وبواسطة هذه الوثيقة القديمة ومثيلاتها من وثائق المطارفة المحلية، تيسر لنا الاستفادة من الإضافة التي أضافها العباسي على رواية ابن زبالة رغم أنه التبس عليه الأمر بسبب تشابه الأسماء. وربما جمع الاسم بحسب ذائقته ولم يلتزم الجمع الشائع، فقال المطارف ولم يقل المطارفة.
الهوامش:
1- التعريف بما أنست الهجرة من معالم دار الهجرة، جمال الدين المطري، ص 72
2- تاريخ المدينة، لقطب الدين النهروالي، مج1، ص143.
3- تاريخ مكة المشرفة والمسجد الحرام والمدينة الشريفة والقبر الشريف، لابن الضياء، ص307.
4- لعله يقصد يحيى بن طريف العلوي الذي ورد ذكره في إحدى وثائق محكمة المدينة مؤرخة في 6-2-1041هـ.
5- عمدة الأخبار في مدينة المختار، أحمد العباسي، ط3، ص125.
6- بعض أعيان المدينة وأعلام القبائل في وثائق المحكمة الشرعية بالمدينة المنورة، فايز البدراني، ط2، ص 626.
7- مِدِّين جمع مِدِّي و هي النطق العامي لمفردة مُؤَدّي أي من أدى ما عليه تأديته، والمراد أنهم قد دفعوا وأدوا ما كان متوجباً عليهم.
8- وثيقة محلية أمدني بها -مشكوراً- الأستاذ علي بن عُتِّيق العمري، ويلاحظ أنها نصف منقوطة.
** **
- محمد بن سعود البيضاني الحربي