لابد لكل مطلوب من مدخل إليه، وسبب يتوصل به نحوه، فلم ينفرد بالاختراع أحد دون واسطة إلاَّ العليم الأول جلَّ ثناؤه، فأول ما يستعمل طلاب الحقيقة في كشف ما يجدونه إلى مشايخهم وعلمائهم الكتابة وذكر الحقيقة، والناس مختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب ما يرونه من مشايخهم من نفار، أو أنس أو فطنة، أو بلادة.
وإني لأعرف من ابتدأ كشف محبته إلى شيخه إما بالكتابة عنه شعراً أو نثراً، والعاقل إن رأى إنساً وتسهيلاً زاد، وإن رأى غير ذلك توقف وحمد الله على العافية.
قال: عبدالرحمن آل غزي عفا الله عنه: أفضل ما ابتدئ به حمد الله، جلَّ وعلا بما هو أهله، ثم الصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله خاصة. وعلى جميع أنبيائه عامة وبعد:
عصمنا الله وإياكم من الحيرة ولا حمَّلنا ما لا طاقة لنا به، وقيَّض لنا من جميل عونه دليلاً هادياً إلى طاعته وقول الحق، ووهبنا من توفيقه أدباً صارفاً عن معاصيه، ولا وكلنا إلى ضعفنا وفساد أهوائنا فإن الكتابة عن العالم الجهبذ كشيخنا الشيخ/ العالم الفاهم صالح بن محمد اللحيدان تحتاج إلى كاتب بارع ماهر، لأنه في حال التوفيق لما يكتب عنه يسر الكاتب والقارئ بنتيجة كتابة الكاتب.
فحمدتُ الله جلَّ وعلا على ذلك، واستدمته لحالي واستزدته لما أنا فيه، ثم لم ألبث أن عرفتُ شخصية شيخنا من خلال دروسه ومحاضراته على قلة فهمي وإدراكي فما أنا بجانبه إلا طويلب عِلم صغر بجانب علمه وفهمه، إلا أنه ما سلَّى المشتاق ونسى الذاكر من تمسك بحبل الوفاء. ورعى سالف الأذمة ووكيد المودة وحق العالم على المتعلم، إلا أن محبة الشيخ ومودته في الله أوجبت علي الكتابة عنه وإن كنت أعلم أنني لم أوفه حقه، ولقد أثبت الله بيني وبين شيخي ما أنا عليه حامد وشاكر، كانت محبتي له لم تكن زائدة على محبتي لأمثاله من سائر علمائنا، ثم أن جميع دروسه ومحاضراته كشفت لي سجية في الشيخ لم يزل عليها إلى أن توفي رحمه الله، تظهر سجيته في علمه في حلوه ومره وسره وجهره، يحدوني إلى الكتابة عنه الود الصحيح الذي أنا على أضعافه مما لم أخبر به أحداً أطلب جزاء غير مقابلته بمثله.
أودك وداً ليس فيه غضاضة
وبعض مودات الرجال سراب
وأمحضك النصح الصريح وفي الحشى
لودك نقش ظاهر وكتاب
وما لي غير الود منك إرادة
ولا في سواه لي إليك خطاب
ومما يؤكد محبتي للشيخ، أن المحبة ضروب:
وأفضلها محبة المتحابين في الله تبارك وتعالى إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النخلة والمذهب، وإما لفضل علم يمنحه الله الإنسان كشيخي. ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة، فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها وزائدة بزيادتها وناقصة بنقصانها متأكدة بدنوها فاترة ببعدها حاشى المحبة في الله المتمكنة من النفوس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت.
وإنك لتجد الإنسان المحب في الله، إذا ذُكّرته في الله تذكر وارتاح ونشط واعتاده، كحب النبي واتباعه واهتاج له الحنين، ومن أقوى الأدلة على ذلك أنك لا تجد اثنين يتحابان إلا بينهما مشاكلة واتفاق في الصفات الطبيعية لابد من هذا وإن قل، وكلما كثرت الأشياء زادت المجانسة وتأكدت المودة فانظر هذا تراه عيانا، يؤكد هذا قول مروي عن أحد الصالحين، فأرواح المؤمنين تتعارف، وروي عن أحد العارفين قوله (ما أحبني فلان إلا وقد وافقته في بعض أخلاقه).
واعلم أعزك الله أن للشيخ صالح حكماً على نفوس القضاة إبان رئاسته للمجلس ماضياً، وسلطاناً، قاضياً، وآمراً لا يخالف. وحداً لا يعصى. وطاعة لا تصرف ونفاذاً لا يرد، وأنه ينقض المرر ويحل المبرم كل ذلك بما يوافق الشرع فكان لهيبة الشيخ أثر ظاهر في نشاط القضاة وحرصهم على أعمالهم مما دفع بهم إلى الجد والاجتهاد والبعد عن المخالفات، حتى أنني سمعت الكثيرين يترحمون على الشيخ ويحنون إلى وقته.
أقول ذلك لمعرفتي به زاملته ثماني سنوات سمان أربع منهن غير متفرغ، وأربع متفرغ، وكنت أحس بأني أقل من أن أكون زميلاً له لحذاقة الشيخ وفطنته، وما أصف من منقوص الحظوظ في العلم والأدب ولكن شيخنا من أوفر الناس قسطاً في الإدراك وأحظهم في الفهم والدراية، وجماعة من أهل العلم مجمعون على فضل الشيخ ومحبته لا يختلف في ذلك مختلف، فما منهم إلا ويثني على الشيخ ويترحم عليه لعلمه وعقله حتى صار ذلك عند الجميع حقيقة حاشى من فيه دخن.
ألا إن عيناً لم تجد يوم واسط
عليك بباقي دمعها لجمود
ما رأيت أحذق منه وأنبه، جالسته وزاملته وعرفت عنه ما لم يعرفه غيري مما يحمد عليه ويشكر، حتى علَّق على قوة حفظه وذكائه أحد العلماء فقال:
ما اجتمع للشيخ صالح لم نعلمه لأحد بعده ولا قبله إلاَّ شيخه الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وقد صرح أحد تلامذته بأن الشيخ صالح حنبلي المذهب إلا ما ظهر له دليل بخلافه.
والإنسان هو الفكر الذي يحمله، وفكر أبي محمد شيخنا ابن لحيدان عربي إسلامي صريح صحيح.
ذكر لي أحد المشايخ أن الشيخ صالح طُلب منه أن يناظر أحد المشايخ المعروفين فقال الشيخ صالح: هذا غير ممكن لأن الشيخ المطلوب مناظرته، طلب العلم وهو معان عليه بمشكاة الذهب، وطلبته أنا وأنا أسهر عليه بقنديل فأنا اصبر منه ويكفي هذا عند الفاهم.
فكان التحصيل العلمي والإفادة منه شغله الشاغل، وأعباء طلب العلم لمن حاله كحال شيخنا لم تكن صارفة له عن العلم. كما أن أعباء العمل غير معوِّق له، لأنه كان حر الفكر فالعلم في صدره يسير معه حيث استقلت ركائبه وكأني بالقائل يقصده حينما قال:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة
ولكن عيبي أن مطلعي غرب
وأن رجالاً ضيعوني لضيَّع
وإن زماناً لم أنل خصبه هرب
توفي الشيخ صالح بن محمد اللحيدان حنبلي المذهب تيمي ألعلم،عرف بالجرأة والصراحة مع العامة والخاصة، أجمع طلاب العلم على علميته وقوة شخصيته في الله، لا يصانع ولا يداهن حتى مع الملوك، اتصلت عليه وأنا عضو متفرغ في المجلس الأعلى للقضاء وسألته عن مولده لأنني بصدد الترجمة له في كتابي (طوق القضاء وأخلاق القضاة) فذكر لي أنه من مواليد سنة 1351).
أجمع كل من أعرفهم على أنه لا يجارى في ذكائه وحدسه ونباهته وعلمه، فهو عجيب في لحظه وحفظه، فهو من أئمة الفقه في زماننا هذا، حظي بغزارة العلم، وقوة البيان وفصاحة اللسان حتى اشتهر بالنصيحة الصادقة فيقال: أنصح من ابن لحيدان فقدم لنا أكثر من نموذج للقاضي الصالح والعالم الناصح، اتصف بالعفة والتعفف تجد ذلك في ثنايا محاضراته ودروسه والمعاصر للشيخ يعيش بين التأثر والتأثير من خلال استفادته من علم الشيخ وسلامة منهجه، لسانه في قول الحق أحد من سيف الحجاج حتى قيل: لسانه وسيف الحجاج شقيقان، وصراحة الشيخ وصرامته لم تترك له محباً من أهل الشر والفساد يبغض من ليس مستقيماً في قوله وفعله، ناصح ومحب لولاة أمره.
قلت له ذات مرة: يا شيخ صالح اشتهرت بالشدة والعنف فقال: نعم على من به انحراف في منهجه وفعله.
والشيخ صالح من المتميزين والمميزين، وجدت فتاواه صدىً واسعاً وقبولاً عظيماً في أماكن كثيرة في المملكة وغيرها من المهتمين بشؤون المسلمين، وهي فريدة من نوعها تلحظ فيها ومنها فكره وعلمه، تلبي كثيراً من احتياجات المسلمين الذهنية والعقلية والفروقات الفردية.
رحمك الله يا شيخنا أبي محمد صالح بن محمد اللحيدان، ستفتقدك ساحات المسجد الحرام ومنابر مساجد الرياض وغيرها. سيفتقدك كل رجل يحب الخير ويكره الشر. لا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على فقدك لمحزونين و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }.
وبهذه المناسبة أوجه دعوتي إلى محب الخير صاحب السمو الملكي الأمير: عبدالعزيز بن فهد أن يتولى جمع تراث الشيخ وعلمه ويعهد جمعه إلى لجنة علمية عايشت وعاشت مع الشيخ ومستعد في حالة موافقة سموه أن أكون عضواً في هذه اللجنة لما للشيخ من جهد مشكور وعمل مبرور.
إليك يا من فقدناه ولم نفقد علمه ونفعه وتوجيهاته.
إليك يا من زاملته وعرفتُ أني أصغر منه في العلم والذكاء.
إليك يا أمة في شخص وشخص في أمة.
من عمل معك لعمري قد يرى البليد يصير ذكيا، والغافل فطناً
من آياتك حفظك لكل ما يقع من القاضي، وبحثك عن أخباره حتى لا تسقط عنك دقيقة ولا جليلة، وتتبعك لحركاته. ولعمري فقد ترى البليد يصير في هذه الحالة ذكياً، والغافل فطناً
إليك وإن كنتُ عاجزاً عن قول إليك.
دليل الأسى نار على القلب تلفح
ودمع على الخدين يحمي ويسفح
إذا كتم المشغوف سر ضلوعه
فإن دموع العين تُبدى وتفضح
إذا جفون العين سالت شؤونها
ففي القلب داء للمحب مبرِّح
اللهم ارحم والدي وشيخي الشيخ صالح
اللهم وأدخله الجنة مع الأبرار يا عزيز ويا غفار.
وصلى الله على محمد.
** **
كتبه/ د. عبدالرحمن بن محمد الغزي - عضو المجلس الأعلى للقضاء - رئيس محكمة استئناف - رئيس محاكم جازان - سابقاً