اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
الواقع أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة كسرت القيود وتجاوزت الحدود بالتدخل في شؤون الدول الأخرى، متذرعة بالدفاع عن الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وعلى رأس هذه الممارسات الظالمة والتصرفات الآثمة ما حصل في أفغانستان والعراق في عهد بوش الابن، وما حصل في عدد من الدول العربية في عهد أوباما أثناء مؤامرة ما يسمى بالربيع العربي التي أراد منها تمزيق الأمة العربية وإغراق دولها في الفوضى تنفيذاً لمشروع الشرق الأوسط الكبير ولصالح الكيان الإسرائيلي والنظام الإيراني.
وإذا كان أبسط تعريف للديكتاتورية هو أنها حكم الأقلية فإن أبسط تعريفات الديمقراطية أنها حكم الأكثرية، والأكثرية إذا لم يسد فيها القانون والعدالة الاجتماعية فإنها تتسلط أكثر من الأقلية، وهذا هو واقع أغلب الديمقراطيات التي تتلاعب فيها الأحزاب بمُقدرات الشعوب مثلما هو الحال في أمريكا التي تتذرع بالديمقراطية لتتسلط على غيرها من الشعوب، متجاهلة المعتقدات الدينية والمبادئ والقيم والأعراف المرعية لهذه الشعوب ومفهومها لحقوق الإنسان والحريات الشخصية التي لا يتفق معظمها مع ما تنادي به أمريكا من ممارسات لا دينية وحريات منفلتة، ونوايا مبيتة تجاه شعوب ودول العالم في سبيل فرض ديمقراطيتها وإخضاع الدول لإرادتها لتحقيق مصالحها وأطماعها الاقتصادية وأهدافها الجيوسياسية.
وما تنظر إليه أمريكا بأنه إصلاح للفساد ومحاربة للاستبداد وتعزيز للديمقراطية ما هو في الواقع إلا إفساد للآخرين وتسلط عليهم وإخضاعهم لديكتاتورية من نوع آخر، نتيجة للتدخل الخارجي في شؤون الدول المستهدفة وامتهان دينها وتهميش لغتها وإثارة القلاقل فيها، وتأليب الشعوب ضد حكامها تمهيداً للاستيلاء على ثرواتها والعبث بمقدراتها وتحويل هذه الدول إلى دول فاشلة مسلوبة الإرادة ومنتهكة السيادة.
والدول العربية كلها خارج التصنيف الديمقراطي الأمريكي باستثناء دولة ذات ديمقراطية ناقصة، يعتمد الحكم فيها على المذهبية والطائفية والمحاصصة، مما يدل على أن هذا التصنيف بالإضافة إلى أنه بني على أهداف مجحفة ومصلحية مسرفة فإنه ينظر إلى الديمقراطية من منظور حزبي وانتخابات تقوم في الغالب على قاعدة حزبية باطلة وما بني على باطل فهو باطل.
والدول المنتمية إلى الدين التي ينبع دستورها من دينها تفرض عليها ديمقراطيتها مراعاة الثوابت الدينية، متقيدة بقيودها، ومتحركة داخل حدودها، بعيداً عن العادات المستوردة وما تمليه الجهات الملحدة، ويروج له أصحاب الطقوس الوافدة.
والدول العربية والإسلامية تؤمن بأن الديمقراطية الصحيحة هي اتباع تعاليم دينها المستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة مع التوفيق بين الأصالة والمعاصرة والثوابت والمتغيرات، بما يكفل الأخذ بناصية العلوم والمعرفة ومسايرة العصر في بيئة يسودها العدل والاعتراف بحقوق واستحقاقات وواجبات الحاكم والمحكوم بشكل يضمن الطاعة من قبل الثاني مقابل عدل الأول ضمن معادلة لا يستقيم أحد طرفيها إلا باستقامة الطرف الآخر.
ومهما حاولت الإدارة الأمريكية النفخ في بالون التحالف الجديد وتضخيم دوره والتعويل عليه لنيل مقاصدها وتصدير مفاسدها، فلن يكون له تأثير محسوب ضد الصين وروسيا رغم أنهما الدولتان المستهدفتان بالدرجة الأولى من إنشاء هذا التحالف، حيث إن هاتين الدولتين ليس من السهل تفعيل المواجهة معهما باستثناء بعض العقوبات الاقتصادية والسياسية.
والمحصلة من هذا التنصيف الجائر والتقسيم التعسفي لدول العالم تكمن في تقسيم العالم إلى معسكرين متضادين وفتح الباب على مصراعيه لسياسة المحاور مع إعادة أجواء الحرب الباردة وتغيير مفهوم الصراع العالمي وتطويره، والاتجاه به إلى اتجاهات يصعب التنبؤ بما يتداعى لها من تداعيات خطيرة وما تؤول إليه من مآلات مدمرة.
ومن المسلم به أن الصين الصاعدة اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً، وكذلك روسيا المتوثبة عسكرياً وسياسياً تمثلان الشغل الشاغل للإدارة الأمريكية، ولكن هذا لا يلغي اهتمامها بمواصلة مشوارها وتكريس استعمارها في منطقة الشرق الأوسط التي جعل منها أوباما مسرحاً للإرهاب، ومارس ضد شعوبها صنوف العذاب.
والإدارة الأمريكية الجديدة تشتمل على فلول من إدارة أوباما ومن يسير في ركابها من المؤسسات والمعاهد المهتمة بالديمقراطية ودعاة الدفاع عن الحقوق والحريات بالإضافة إلى الجماعات الضالة داخل الدول العربية وخارجها التي ترى في القمة الوسيلة المناسبة التي تتيح لها المجال لاستعادة دورها التخريبي واستئناف ربيعها التدميري في الدول العربية، مستغلة الموقف لتمزيق دولها وتدمير مؤسساتها وإسقاط النظم الحاكمة فيها لأسباب مذهبية أو طائفية أو غيرها.
وفي ظل الأحداث الإقليمية والدولية المتسارعة يتعين على الأمة العربية التي عانت الكثير من المصائب ولم تتعظ من التجارب أن تعلم علم اليقين أن ما حصل ويحصل من تحول حياة المواطن العربي إلى جحيم، ووطنه محتل أو تحت التقسيم في كل من فلسطين والعراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، ليس ببعيد أن يتكرر المشهد بالنسبة للدول العربية الأخرى، طالما ما بقيت الأمة منقسمة على نفسها ومغلوبة على أمرها بين قوى الاستعمار الغازية.
وسلوك الإدارة الأمريكية الجديدة والنظر إلى سياستها في المنطقة بأنها امتداد لسياسة إدارة أوباما، يعتبر ذلك من الأمور المثيرة للقلق بالنسبة للدول العربية خوفاً من الإمعان في تقسيم المقسم وتفتيت المفتت، الأمر الذي يفرض على بعض النظم الحاكمة الإقلاع عن استبدادها وإصلاح فسادها وعلى الشعوب نبذ خلافاتها والالتفاف حول قياداتها لحماية دينها والدفاع عن عرينها، كما يتطلب الأمر من علماء الدين والنخب السياسية والإعلامية تنوير وتوعية الشعوب حول ما يبيت لها من مؤامرات ويحاك ضدها من سياسات تهدف إلى تدمير الدول العربية، وتقسيم الوطن العربي إلى كيانات مستعمرة مع استبدال الانتماءات الوطنية والقومية والدينية بانتماءات مستوردة حسب مفهوم الشرق الأوسط الكبير.