عبدالرحمن الحبيب
الصين دولة عظمى دون أن تستعمر أو تغزو أو تبني قواعد عسكرية في أية دولة، ولكنها من أكثر الدول تأثيراً في العالم من خلال قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، وهي من أكبر الدول الدائنة بالعالم.. ويبدو أن الغرب المتضايق من هذه القوة الاقتصادية العظمى، لم يجد في هذه القوة ما ينتقده سوى أنها تضع مصيدة الديون لتوسيع نفوذها على الدول الأخرى من خلال إقراض الدول الفقيرة التي تقع في الفخ وتصارع من أجل تسديد ديونها لتصبح ضعيفة أمام الضغط الصيني للحصول على ميزات عسكرية، وتتنازل عن سيادتها على أصول أساسية إذا لم تتمكن من تسديد ديونها. الصين بدورها ترفض هذا الاتهام، وتقول إن ما يسمى «مصيدة الديون» اختراع من دعاية غربية إذ لا توجد دولة واحدة وقعت في المصيدة المزعومة نتيجة للاقتراض من الصين.
لا شك بأن هناك ديونا، لكن ما هو حجمها؟ تبلغ ديون جيبوتي ولاوس وزامبيا وقيرغيزستان للصين ما يعادل 20 في المائة على الأقل من ناتجها المحلي الإجمالي السنوي حسب دراسة إيد داتا (جامعة وليام أند ماري الأمريكية). الجزء الأكبر من هذه الديون هي تحت مبادرة الحزام والطريق لمشاريع ضخمة للبنية التحتية مثل الشوارع وسكك الحديد والموانئ، والتعدين والطاقة..
أشهر الأمثلة التي يكررها الغرب هي حالة سيريلانكا، مستشهدين بمشروع بناء ميناء ضخم في هامبانتوتا يضم مقاولين وقروضا من الصين، حيث انتهى به المطاف بديون ثقيلة على سيريلانكا اضطرتها على الموافقة عام 2017 على منح شركة «تشاينا ميرتشانتس» المملوكة للدولة حصة مسيطرة بنسبة 70 في المائة في الميناء في عقد إيجار لمدة 99 سنة مقابل استثمارات صينية إضافية.
لكن هناك من يشكك في الرواية الغربية لمصيدة الدين الصينية، ففي مثال سيريلانكا كان الاتفاق نتيجة اعتبارات سياسية داخلية، ولم تأخذ الصين أية ملكية رسمية في الميناء، حسب معهد تشاتام هاوس البريطاني الذي أوضح أن جزءاً كبيراً من الدين الإجمالي لسيريلانكا يعود إلى مقرضين غير صينيين، وأنه لا يوجد دليل على أن الصين استغلت وضعها للحصول على ميزة عسكرية استراتيجية من الميناء. كما أن دراسة «إيد داتا» تذكر أنه بين مئات الترتيبات الخاصة بالقروض التي درستها لا توجد أي حالة لقيام جهات إقراض صينية مملوكة للدولة بالاستيلاء على أصول كبيرة في حالة العجز عن تسديد القرض. هذا لا يعني أن الاقتصاد الصيني ليس له نفوذ كبير على بعض الدول، مما جعل البعض يخشى من هذا النفوذ واحتمالية استغلاله لصالح الصين أو منحها أصولا ضخمة.
ثمة اتهام آخر من الغرب بأن الصين تميل إلى الإقراض بنسب فائدة أعلى كثيراً من الحكومات الغربية، وأن فترة السداد المطلوبة لقرض صيني تعتبر أقصر بمعدل 10 سنوات، مقارنة بـ 28 عاماً للقروض الميسرة من مقرضين آخرين للدول النامية. «إذا فشل المقترض في سداد دينه، فإن بإمكان الصين ببساطة أن تسحب الأموال من هذا الحساب المصرفي بدون الحاجة إلى تحصيل الديون المعدومة من خلال الإجراءات القضائية». وهذا النهج نادراً ما نراه في القروض الصادرة عن المقرضين الغربيين. الصين ترفض هذه الاتهامات، ذاكرة أنها انضمت إلى مبادرة مجموعة العشرين بتخفيف عبء الديون عن كاهل الدول الفقيرة لمساعدتها على مواجهة تأثيرات جائحة فيروس كورونا، وأنها ساهمت «بأعلى مبلغ من سداد الديون» من أي دولة تشارك بالخطة.
حالياً، يستعد الاتحاد الأوروبي لإعلان خطة بالمليارات لمواجهة النفوذ الصيني، كما أعلنت مجموعة السبع مؤخرًا عن شراكة مشروع «إعادة بناء عالم أفضل» في مسعى لمواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية، لكن خبير سياسات شرق آسيا رايان هاس (جامعة ييل الأمريكية) يختلف مع طريقة الغرب بقيادة أمريكا في التنافس مع الصين من خلال إعاقتها أو منافستها بمشاريع مشابهة لمشاريعها..
يتساءل هاس: «السؤال الأساسي الذي يواجه صانعي السياسة يجب ألا يكون ما إذا كان لدى الولايات المتحدة مبرر للشعور بالحق في سخطها، بل بالأحرى كيف يجب على الولايات المتحدة الرد على الإجراءات الصينية بطريقة تدفع الصين لأقصى حد بالاتجاه المفضل لأمريكا.» وبدوره يجيب بأن التاريخ الحديث للعلاقة مليء بأمثلة على الدبلوماسية الأمريكية التي تحرك الصين في الاتجاهات المفضلة لواشنطن مثل التنسيق الاقتصادي المكثف بينهما حول الأزمة المالية العالمية عام 2008 في تجنب الكساد الاقتصادي العالمي؛ ومثل تكثيف الدبلوماسية التي قادتها أمريكا، وحولت الصين من كونها معيقة بمؤتمر كوبنهاجن لتغير المناخ لعام 2009 إلى لاعب رئيس في تأمين اتفاق مؤتمر باريس للمناخ عام 2015. كما تعاملت الصين إيجابياً مع الدبلوماسية الأمريكية المكثفة عندما انضمت إلى الاستجابة الدولية لوباء إيبولا عام 2014 وساعدت في بناء قدرات الصحة العامة في إفريقيا بعد ذلك.
المشكلة - حسب هاس - أنه غالبًا ما تحجب التوترات المتصاعدة حاليًا بين أمريكا والصين الأمثلة السابقة للإجراءات المنسقة بينهما لمواجهة التحديات الدولية المشتركة.. فالعديد من التهديدات الأكثر حدة اليوم تتجاوز الحلول الأحادية، سواء كانت مواجهة كورونا أو تعزيز الأمن الصحي العالمي، أو بناء اقتصاد عالمي أكثر شمولية، أو معالجة أزمة المناخ..