محمد سليمان العنقري
لم يكن الاقتصاد العالمي بأفضل حالاته قبل جائحة كورونا فقد كان التباطؤ بالنمو ظاهراً في كل الاقتصادات المتقدمة بل إن الفيدرالي الأمريكي ومنذ العام 2018 بدأ بسياسات نقدية مرنة لمنع وقوع الاقتصاد الأمريكي في فخ الركود لكن العام 2020 الذي شهد أكبر إقفال اقتصادي بالتاريخ بسبب تفشي فيروس كورونا عجل بدخول الركود لمعظم اقتصاديات دول العالم مما استدعى اتخاذ سياسات نقدية ومالية من غالبية الدول خصوصاً دول مجموعة العشرين حيث بلغت تكاليفها أرقاماً فلكية بلغت حتى تاريخنا الحالي قرابة 30 تريليون دولار مما أدى بطبيعة الحال للمساهمة باحتواء تداعيات أكبر أزمة اقتصادية بالتاريخ الحديث والعودة للنمو لكن بالمقابل ساهمت هذه السياسات مع عوامل أخرى بظهور أعراض مرضية لا يستهان بها مثل التضخم الذي أصبح أكبر تحد يواجه صناع السياسة النقدية بالعالم بالإضافة لارتفاع مستويات الديون السيادية لأرقام ضخمة مع عوامل سلبية أخرى كان منها ملفات الخلافات السياسية بين بعض الدول التي تهدد بنشوب حروب من بين أطرافها قوى عظمى.
فالتضخم بات هو أهم مهدد لنمو الاقتصاد العالمي فمن أسبابه حجم الأموال الضخم الذي ضخ بالأسواق العالمية لكن توقف عجلة الإنتاج بالعام 2020 وفي فترات متقطعة من عام 2021 أدى لظهور إشكاليات كبرى في سلاسل الإمداد صاحبها ارتفاع هائل بأجور الشحن تحديداً إيجار الحاويات مما أدى لتراجع بالعرض للسلع قياساً بالطلب الذي واكب تعافي الاقتصاد عالمياً مما أدى لارتفاع كبير وحاد بالأسعار أثر بنسب كبيرة على تكاليف المعيشة بالاقتصادات المتقدمة التي تعد محرك وقائد الاقتصاد العالمي حيث تراجع إنفاق المستهلكين وارتفعت تكاليف الإنتاج بل إن بعض الدول مثل أميركا التي اعتمدت مساعدات للأسر الأمريكية المتضررة من أزمة كورونا اقتصادياً أصبح أرباب هذه الأسر يفضلون الإعانة التي يأخذونها على الالتحاق بالأعمال مما أدى لشح باليد العاملة عطلت بشكل لافت عجلة الإنتاج فسفن البضائع في الساحل الغربي لأميركا تحتاج أربعة أسابيع لتفريغ حمولتها بسبب نقص العمالة مقارنة بأيام قليلة قبل جائحة كورونا مما يؤدي لتأخير بتسليم الشحنات وينعكس ذلك بنقص في العرض بالسوق للسلع مما يرفع من أسعارها وهو ما يحدث في أغلب الاقتصادات المتقدمة التي تمثل حوالي 75 بالمائة من الاقتصاد العالمي ولا يبدو أن مشكلة التضخم ستحل من ناحية معالجة سلاسل الإمداد بالأمد القريب مما أدى لتغيير رئيس الفيدرالي الأمريكي لتوصيفه للتضخم من عابر إلى مشكلة طويلة الأجل وهو ما يشير للتوجه نحو سياسات نقدية متشددة بدأها الفيدرالي بسحب التيسير الكمي والتعجيل بذلك والحديث أيضاً عن رفع لأكثر من مرتين لأسعار الفائدة إلا أن بنك جولدمان ساكس توقع أن يصل عدد مرات رفع الفائدة إلى أربع مرات هذا العام بينما رأى رئيس بنك جي بي مورغان أن ارتفاع التضخم إذا استمر بنفس الوتيرة قد تصل مرات رفع الفائدة هذا العام حسب توقعه إلى 6 أو 7 مرات وهو ما يشير إلى استفحال مشكلة التضخم بمعزل عن دقة توقعاتهم لعدد مرات رفع أسعار الفائدة خصوصاً أن التضخم في أميركا عند مستويات لم يشهدها اقتصادهم منذ 39 عاماً عند قرابة 7 بالمائة وذات المشكلة في بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي والكثير من الاقتصادات الناشئة ففي الدول العربية تخطى معدل التضخم 12 بالمائة العام 2021.
أما مشكلة ارتفاع الديون السيادية فهي تعد أيضاً تحدياً كبيراً للاقتصاد العالمي بعد تحذير البنك الدولي من احتمال ظهور حالات إفلاس بالعديد من الدول الفقيرة نظير عدم قدرتها على سداد ديونها رغم أن مجموعة العشرين في اجتماعها برئاسة المملكة العربية السعودية العام 2020 أطلقت مبادرة علقت بها سداد خدمة الديون عن الدول الفقيرة لفترة طويلة لكن ما زال الاقتصاد العالمي بما يعانيه من ارتفاع بمعدلات التضخم والديون وخدمتها ضاغطاً على تلك الدول التي تحتاج لبرامج تمويل ومبادرات عديدة ولعل ظهور مشكلة ديون سريلانكا على السطح ما هو إلا مقدمة لما يمكن أن يحدث لدول عديدة ذات حجم اقتصادي محدود، ولم يكن يكفي العالم تلك التحديات حتى بدأت تتصاعد حدة التوترات السياسية في مناطق عدة من العالم وأكبرها التي تهدد بنشوب حرب بين روسيا وأوكرانيا حيث توقع البيت الأبيض أن احتمال غزو روسيا لأوكرانيا بات قريباً فحشد روسيا لعشرات الآلاف من جنودها على الحدود الأوكرانية وبتجهيز بأسلحة ثقيلة ليس نزهة بكل الأحوال فالدول التي تتصارع هي دول نووية وهي التي تهيمن على ترتيب أقوى جيوش العالم فحلف الناتو وبقيادة أميركا يطلقون تهديدات ضد روسيا إذا ما قامت بغزو أوكرانيا وقد يزداد الوضع الدولي سوءاً إذا تصاعدت الأزمة الصينية التايوانية للمواجهة العسكرية بينهما حيث هذا الملف أيضاً من الخلافات السياسية الكبرى في شرق آسيا إضافة للملف النووي الإيراني وأيضاً التواترات التي تشهدها كازاخستان ودول آسيا الوسطى مما ينذر بأزمة اقتصادية عالمية إذا ما انفجرت المواجهات العسكرية أو تزعزع استقرار دول آسيا الوسطى مما قد يرفع من أسعار النفط والغاز لمستويات عالية بوقت قصير لا يستطيع أن يتحملها الاقتصاد العالمي بالإضافة لما قد تؤثر به هذه الحروب لو وقعت على سلاسل الإمداد وبالضرورة سيستمر ارتفاع معدلات التضخم وإفلاس الدول الفقيرة أي عدم قدرتها على سداد ديونها مما قد ينقل الأزمة للقطاع المالي العالمي.
هذه التحديات الكبرى هي ما يسيطر على المشهد الدولي ويستدعي القيام بالحلول المتوازنة لمنع أي تأثير على ما تحقق من عودة للنمو بالاقتصاد العالمي حيث يتطلب ملف معالجة التضخم التوازن بين إيقافه عن الارتفاع والحفاظ على النمو الاقتصادي بالإضافة لبرنامج دولي يحمي الدول الفقيرة من التعثر في سداد التزاماتها إضافة لمعالجة الخلافات السياسية بالدبلوماسية فالعالم لم يستفق بعد بالكامل من أزمة كورونا التي مازالت تصنف كجائحة وتشهد تحورات عديدة وسريعة بالفيروس تربك الأجهزة الصحية وشركات الأدوية المختصة بصناعة اللقاحات عالمياً فالعالم على مفترق طرق هذا العام وإذا كانت العوامل الأساسية إيجابية حتى تاريخنا الحالي والمستقبلي لكن ظهور هذه العوارض حتى وإن كان متوقعاً إلا أن حجم الإشكاليات الناجمة عنها يبدو كبيراً ويتطلب حلولاً عاجلة.