حسام الحجيلان
تشهد مملكتنا الحبيبة قفزات تنموية وتطويرية متسارعة على الأصعدة والقطاعات كافة، وذلك تحقيقاً لمستهدفات رؤية 2030م، والتي أطلقها خادم الحرمين الشريفين الملك، وفعلها ولي العهد سمو الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود -حفظهما الله-، وقد كان على رأس برامج الرؤية القطاع القانوني والقضائي، والذي يشهد كل يوم انطلاقة وتطوراً كبيراً، كان آخرها منذ أيام، عندما أكد سمو الأمير أن نظام الإثبات الصادر بالمرسوم الملكي رقم: (م/43) وتاريخ: 26-05-1443هـ، والمنشور بجريدة أم القري بالعدد (4916) وتاريخ: 04-06-1443هـ الموافق: 07-01-2022م، سيحقق نقلة نوعية كبرى في منظومة التشريعات العدلية ويرسخ مبادئ مؤسسة على مرجعيات ثابتة في العمل القضائي -يقصد بالإثبات هنا الإثبات القضائي أي إقامة الدليل بمجلس القضاء، بالطرق المحددة نظاماً على وجود واقعة قانونية ترتب آثار- مقدماً شكره لخادم الحرمين الشريفين على دعمه الدائم لعملية تطوير المنظومة التشريعية والقضائية في السعودية، بما يسهم في رفع جودة المنظومة التشريعية، وتعزيز أداء الأجهزة العدلية بالنظر إلى أن هذه الأنظمة ركائز أساسية في تحقيق الشفافية والعدالة.
وقد ثمّن وزير العدل تطوير منظومة التشريعات المتخصصة التي ترسخ مبادئ العدالة والشفافية، وتسهم في تحقيق التنمية الشاملة، بما يسهم في رفع جودتها وتعزيز أداء الأجهزة العدلية، وقد أوضح أن أبرز أهداف نظام الإثبات استقرار الأحكام القضائية، والإسراع في الفصل في المنازعات؛ ليتفرغ القاضي لتحرير الوقائع وتوصيفها وإثباتها.
ويمكننا القول إن نظام الإثبات الجديد سيضفي نقلة نوعية جديدة على مستوى التقاضي بالمملكة، في ظل ما سبقه من أنظمة صدرت حديثاً منها: نظام التكاليف القضائية رقم: (م/16) وتاريخ: 30-01-1443هـ، ونظام التنفيذ أمام ديوان المظالم الصادر رقم (م/15) وتاريخ: 27-01-1443هـ، وأن هذه الوتيرة المتسارعة منضبطة الصياغة، سوف يزيد من كفاءة المخرجات القضائية وتعزيز الشفافية، وأنه في السنوات الأخيرة سُنت العديد من الأنظمة والتنظيمات واللوائح، حيث صدر (60) نظاماً جديداً، و(77) تنظيماً جديداً و(36) ترتيباً تنظيمياً وأكثر من (24) لائحة جديدة، وكل ذلك بهدف تطوير المنظومة التشريعية والقضائية بالمملكة.
فنظام الإثبات الجديد قد روعي فيه تلبية متطلبات ومستجدات الحياة في الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والتقنية، ومواكبة التطورات الحاصلة في العصر الحاضر، وذلك في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية والتزامات المملكة الدولية، مع الاستفادة من أفضل الممارسات الدولية في قوانين الإثبات المعمول بها على مستوى دول العالم ودول المنطقة، والذي يهدف إلى إيجاد حلول للعديد من القضايا الشائكة، والتي كانت وما زالت تعج بها أروقة المحاكم، مما يُشكل معاناة وعبئاً على الجهاز القضائي، ومنها على سبيل المثال القضايا العقارية، حيث سيسهم هذا النظام في إمكانية التنبؤ بالأحكام الصادرة في هذه النوعية من القضايا، بل والتنبؤ بما ستعتمده المحكمة من أدلة للإثبات، مما سيزيد من الثقة والاطمئنان في الالتزامات التعاقدية في مجال العقارات وسرعة الفصل فيها، وكذلك قضايا التركات، حيث سيؤدي النظام إلى التقليل من جرأة بعض الناس على الشهادة في كل ما يخالف الظاهر في مثل هذه النوعية من القضايا، وكذلك التقليل من المشكلات الناشئة عن وجوب تزكية الشهود في أي قضية تتعلق بها، كما يُعد هذا النظام الجديد نقلة نوعية في مجال القضاء، نظراً لأهمية الأدلة في أي نزاع قضائي وأثرها على الأحكام القضائية، حيث يستوعب النظام جميع التجارب الدولية والتغيرات الناشئة بسبب التحول الرقمي في القطاع العدلي، وانتشار الأدلة الإلكترونية، كما يعد نظام الإثبات أحد أسبق الأنظمة العربية في إفراد باب مستقل للأدلة الرقمية، وسيدخل النظام حيز السريان في الربع الأول من هذا العام، حيث سيساعد على دعم التحول الرقمي والتطور في أنظمة المحاكم الإلكترونية.
فمواد هذا النظام (131) مادة، وقبل البدء بالمادة الأولى، هناك أحكام انتقالية، ثم جاءت مواد النظام، والتي راعت التغيرات والأبعاد الزمانية والمكانية كافة، وجميع الظروف المؤثرة على الأدلة، وأسهم ذلك في إيجاد مواد نظامية تستوعب ما تحتاج إليه المحكمة والخصوم في الإثبات المدني والتجاري، حيث إنه في مادته (130) ألغي الباب التاسع من نظام المرافعات الشرعية رقم: (م/1) لعام 1435هـ، والباب السابع من نظام المحاكم التجارية رقم: (م/93) لعام 1441هـ، وأنه قد عنون الباب الرابع بمسمى: «الدليل الرقمي»، متضمناً (12) مادة، من المادة (54) حتى المادة (65)، وهذا يمثل ثورة قانونية وقضائية في مجال نظام الإثبات، كذلك سوف يحد النظام من جرأة البعض على الشهادة بما يخالف ظاهر الحال، فمنع قبول الشهادة على التصرفات التي تزيد على (100.000) ريال، باعتبار أن عدم ثبوتها إلا بالشهادة يخالف ظاهر الحال ويخالف التوجيهات بتوثيق العقود كتابةً، كما سيحدّ من المشكلات المترتبة على وجوب تزكية الشهود على كل حال، وسوف يساعد على استقرار الأحكام القضائية، ويزيد الثقة والاطمئنان في الالتزامات التعاقدية، إلى جانب سرعة الفصل في المنازعات القضائية، والحد من ظاهرة أن العدالة البطيئة هي الظلم بعينه، حيث يمنح النظام مرونة عالية للقضاء بالاستفادة من أدلة الإثبات المعتبرة خارج المملكة ما لم تخالف النظام، وأجاز النظام الاستعانة بخدمات القطاع الخاص في إجراءات الإثبات، وإعطاء النظام الأطراف الحق في الاتفاق على الإثبات بالطريقة التي تناسب مصالحهم، وسوف يقلص الاستناد على الخبراء الخارجيين وهيئة النظر وغيرها.
كما أن النظام يأتي مكملاً وموضحاً لمواد ونصوص واردة بأنظمة أخري، حيث جاء بفصله الأول من الباب الثالث قد عرف المحررات الرسمية، والمحرر الرسمي هو الذي يثبت فيه موظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة، ما تم على يديه أو ما تلقاه من ذوي الشأن طبقاً للأوضاع النظامية، وفي حدود سلطته واختصاصه، وهو حجة على الكافة، وتكون الصورة الرسمية مطابقة للأصل ما لم ينازع أحد فيها، وإذا لم يوجد أصل المحرر الرسمي فتكون للصورة الرسمية حجية الأصل، متي كان مظهرها الخارجي لا يسمح بالشك.
بينما الفصل الثاني عرف المحرر العادي بأنه الذي يصدر ممن وقعه وحجة عليه، وليس بموظف عام أو شخص مكلف بخدمة عامة، وأن الدفاتر التجارية تُعد نوع من هذه المحررات، ولا تكون حجة على غير التجار، وإذا كانت منتظمة فتكون حجة لصاحبها ضد خصمه التاجر.
وقد جاء بالفصل الثالث أنه يجوز للخصم أن يطلب من المحكمة إلزام خصمه بتقديم أي محرر منتج في الدعوى يكون تحت يده، وحدد حالات لذلك، كما أن للخصم في الدعاوى التجارية أن يطلب من خصمه تقديم محررات ذات صلة بالدعوى، كما جاء بالفصل الرابع كيفية إثبات صحة المحررات، وأن للمحكمة أن تقدر ما يترتب على العيوب المادية في المحرر من إسقاط حجيته في الإثبات أو إنقاصها، ويرد الادعاء بالتزوير على المحررات الرسمية والعادية، أما إنكار الخط أو الختم أو الإمضاء أو البصمة فلا يرد إلا على المحررات العادية.
يضاف لذلك أن النظام قد استمد مواده وأحكامه كافة من الكتاب والسنة، واعتمد على أدلة التشريع الإسلامي المتفق عليها، علمًا بأن النظام قد نشر بجريدة أم القري منذ عدة أيام، وسيدخل حيز النفاذ بعد 180 يومًا من تاريخ: 04-06-1443هـ الموافق: 07-01-2022م.
وقد كان نتاج توفر بيئة تشريعية تنافسية على مستوى العالم، ما أدى إلى أن حققت المملكة مراكز متقدمة عالمياً في عدة مؤشرات قضائية وتشريعية وقانونية حسب تقرير التنافسية العالمية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (دافوس) لعام 2019م، ويعود هذا التطور والتقدم العظيم بفضل الاهتمام والدعم الذي يوليه خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين -حفظهما الله- وهذا الاهتمام له امتداده التاريخي وليس وليد اليوم، حيث شهدت المنظومة التشريعية والقضائية نقلة نوعية محط إشادة وتقدير من المؤسسات الدولية والإقليمية كافة، وذلك لضمان استقلالية القضاء ورفع كفاءته وتطوره وتقدمه، باعتباره إحدى سلطات الدولة الثلاث، التي تحقق الطمأنينة لمن في الداخل، وتجذب من بالخارج، خاصة الاستثمارات الأجنبية.
تم بحمد الله.