حمّاد بن حامد السالمي
هذا هو المقال الرابع حول (عروبة العلماء) الذين عشنا وعاش كثرة ممن سبقنا على ظنّ أن (جُلّهم) من العجم. سبق أن بحث في هذه المسألة بتعمق باحثان عالمان من العراق. الأول هو: (العلامة الدكتور ناجي معروف 1910م 1977م)، في كتابه الموسوعي: (عروبة العلماء). والثاني هو: (الباحث الشهير يونس الشيخ إبراهيم السامرائي ت 1422هـ)، في كتابه الكبير: (علماء العرب في شبه القارة الهندية). وجاء ثالث هو: (الدكتور طه بن حامد الدليمي)، الذي بادر مشكورًا فأراني خلاصة بحثه وما كتبه على الشبكة العنكبوتية مؤخرًا؛ بعد أن اطلع على ما كتبته أنا حول هذا المحور المهم في المقال الأول المنشور في 27 ديسمبر 2020م:
(https://www.al-jazirah.com/2020/20201227/ar2.htm)
وفي المقال الثاني المنشور في 26 ديسمبر 2021م:
(http://www.suhuf.net.sa/2021/20211226/ar2.htm)
ثم المقال الثالث المنشور في 9 يناير 2022م:
(https://www.al-jazirah.com/2022/20220109/ar2.htm)
«يبدأ الباحث الدليمي كلامه بقوله: من حين لآخر؛ تطل علينا الشعوبية بأشكال وألوان شتى. لعل أخطرها ذلك الوجه المتجمل بطلاء: (حيادية البحث طلباً للحقيقة المجردة). ومن مفرداته: دعوى أن مشاهير علماء الأمة كانوا فُرسًا، مع الإيحاء بأن حضارة العرب والإسلام لم تكن وليدة نتاج فكر عربي. ثم يؤتى لتأكيد هذه الدعوى بعلماء ذوي ألقاب أعجمية، كالنيسابوري والسجستاني. ويعيد الدليمي الجرم في هذه القضية- وهو محق في هذا- إلى الشعوبيين بعقدة نقصهم، وكذلك المغفلون من العرب أنفسهم، الذين يتجاهلون دور العلماء العرب، ثم يدلسون في نسبة علماء عرب تعلقاً بأسمائهم، مثل: أبي حنيفة، أو ألقابهم مثل: الإمام مسلم. كذلك يُغفلون دور الحضارة العربية الإسلامية في صناعة العلماء الأعاجم. فهم حضاريًا عرب، وجهدهم منتوج حضاري عربي. كما أن جهد العالم غير الأمريكي في أمريكا منتوج حضاري أمريكي. يذكّر الدليمي في هذا السياق؛ بنهج الشعوبية الفارسية المشهور عنهم في طمس كل منجز حضاري عربي ونسبته إليهم. المثال كما قال: الإمام سيبويه، حيث سعوا إلى تبريز شخصيته العلمية على حساب إمام العربية طراً العربي: (الخليل بن أحمد الفراهيدي)، الذي هو شيخ الفارسي سيبويه..! على أن سيبويه؛ لا أحد يقلل من شأنه ومنزلته بين علماء العربية، ولكن التحقيق يُظهر أن غيره أولى منه بإمامة اللغة. ومن عوامل تسلط الشعوبية الفارسية وجرأتها على اجتراح الباطل؛ ضعف الإعلام العربي وسطحيته. يضيف الدليمي: توجد روايات وحكايات فاضت بها كتب الأدب والنوادر والطرائف، وهي تشعرك أن تاريخنا العربي كتب بأقلام عربية، لكن بشفاه فارسية..!
وهكذا.. يتكلم الدكتور الدليمي بشيء من الإحاطة عن أعلام ظهروا فاشتهروا في اللغة العربية، وفي الفقه والحديث، يُنسبون إلى ديار أعجمية، لكنهم في الأصل من قبائل وعشائر عربية أبًا عن جد. وأضيف هنا؛ أنه سبق أن قلت فيما سبق لي نشره تحت عنوان: (عروبة العلماء)؛ أن الأسماء العربية التي يحملها هؤلاء الأعلام؛ أو أسماء آبائهم وأجدادهم؛ التي قد تأتي أحيانًا عربية متسلسلة إلى ما لا نهاية؛ حتى لو نسبوا إلى أقطار أعجمية.. إن ذلك يشكل ظاهرة مهمة، ليس لها من تفسير إلا عروبة هؤلاء الأعلام من العلماء البارزين، بدليل.. أنهم يحرصون على أصولهم، فيحافظون على أسمائهم العربية فيهم وفي أبنائهم وأحفادهم، إلى جانب الدين الإسلامي الذي يربطهم بالأصل وبالمحيط الذي هم فيه منذ الفتوحات الإسلامية، زمن وصول العرب الفاتحين إلى هذه الديار الأعجمية وتلك، حتى استوطنوا فيها وتكاثروا، فكثروا عبر مئات السنين.
وللتدليل على عروبة المشاهير؛ من علماء أعلام في اللغة والفقه والحديث؛ ظلوا في نظر الكثيرين أعاجم؛ لجهلنا نحن العرب، ولخبث وسطوة من بأحشائهم (عداوة العرب إلى يوم الدين).. للتدليل على ذلك؛ أقف معكم ومع الدكتور الدليمي على نماذج من أسماء شهيرة، ففي العلوم الفقهية؛ هناك (الإمام مالك ت 179هـ)؛ عربي أصبحي. و(الإمام الشافعي 204هـ)؛ يتصل نسبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عبد مناف. و(الإمام أحمد بن حنبل ت 242هـ)؛ هو من بني شيبان. كما أن (أبا حنيفة النعمان ت 150هـ)؛ هو عربي من الأنبار بالعراق.
أما مشاهير أئمة الحديث؛ فنجد أن (الإمام مسلم)؛ عربي من قُشير. و(الإمام البخاري)؛ ينسب إلى بخارى وليس فارس، ويرجح أنه من مذحج. و(الإمام أحمد بن حنبل)؛ شيباني. و(الإمام أبو داود)؛ أزدي. و(الإمام الترمذي)؛ سُلمي. و(الإمام الدارمي)؛ من تميم. ومثله (ابن حيان)؛ تميمي.
إن ما تقدم ذكره؛ هو مجرد أمثلة لا غير وإلا؛ فإن (الدكتور ناجي معروف)؛ سرد آلاف الأسماء في شتى العلوم والمعارف، واثبت أنسابهم العربية لا الأعجمية، وجاء من بعده (الدكتور يونس الشيخ السامرائي)؛ بعدد لا يُحصى من أسماء مشاهير العلماء في القارة الهندية وحدها، في الفترة من القرن السابع حتى القرن الثالث عشر فقط. هناك حقيقة تاريخية ينبغي لباحثي العربية من مؤرخين وكُتّاب؛ التوقف عندها وإدراكها، وهي أنه ليس كل من انتسب إلى قُطر أعجمي هو غير عربي، فكم كبير من العلماء الأعلام؛ يُنسبون إلى أقطار أعجمية، ولدوا فيها وعاشوا مع أهلها، لكن أصولهم وجذورهم عربية. لا نقول هذا تعصبًا أو عداءً ضد عنصر أو جنس من البشر، لكنّا من حقنا أن نفخر بهؤلاء الأعلام، ونريد أن نعيد الحق إلى نصابه، وأن ننصف هؤلاء الأفذاذ الذين كانوا وما زالوا؛ عُرضة للتدليس والتلبيس، فانتهكت أسماؤهم، ولوِّثت سيرهم، وشوِّه تاريخهم، بخبث من الشعوبية الفارسية. لله در شاعر العربية (إبراهيم اليازجي) الذي قال:
تنَبَّهوا وَاستَفيقوا أَيُّها العَرَبُ
فَقَد طَمى الخَطبُ حَتّى غاصَتِ الرُّكَبُ
فيمَ التَعلُّلُ بالآمالِ تَخدَعَكُم
وَأَنتُمُ بَينَ راحاتِ الفَنا سلُبُ
اللَّهُ أَكبرُ ما هَذا المَنامُ فَقَد
شَكاكُمُ المَهد وَاشتاقَكُمُ الرَّبُّ
كَم تُظلمون وَلَستُمُ تَشتَكون وَكَم
تُستَغضَبونَ فَلا يَبدو لَكُم غَضَبُ
ألِفتُمُ الهون حَتّى صارَ عِندَكُمُ
طَبعاً.. وَبَعضُ طِباعِ المَرءِ مُكتَسَبُ
وَفارَقَتْكُم لِطول الذُلِّ نَخوَتُكُم
فَلَيسَ يُؤلِمُكُم خَسفٌ وَلا عَطبُ