سلمان بن محمد العُمري
كانت مفردة «المحامي» من المفردات قليلة الاستعمال لدينا قبل ثلاثة عقود، ولا نكاد نسمعها سوى في المسلسلات المصرية التي لا تكاد تخلو من ثلاث لزمات في كل مسلسل، وهي: «أنا حأحرمك من الميراث، ومشهد آخر لطبيب يزور المريض فإذا به يتعافى وينشط في ثوانٍ، ومشهد المحامي المتلاعب مع الشخصية الإجرامية في المسلسل».
وفي الآونة الأخيرة أصبحت مكاتب المحاماة تنافس محلات التموينات، فانضم إلى قافلة المعلمين بعض القضاة وكتاب العدل إلى جانب المعلمين والموظفين المتقاعدين وغيرهم ممن تقاعدوا أو استقالوا من وظائفهم ويحملون المؤهلات الشرعية وإن لم يمارسوا هذا العمل من قبل كمحامين أو مستشارين، وأصبحت أقسام القانون في الجامعات تشهد إقبالاً كبيراً بعد أن كانت من التخصصات المعزوف عنها والتي لا يرغب الناس بها.
والمحاماة مهنة كغيرها من سائر المهن وهي من مقتضيات الحياة الاجتماعية، ولكن أصحابها يرون بأنها من المهن الرفيعة وأنها مهمة، ولا شك في أهمية المحاماة، واعتبرها لا تقل أهمية عن القضاء لما يتطلب فيها الإنصاف والعدل والأمانة وتوخي الحق ونصرة المظلوم ودفع الظالم ورد الحقوق إلى أهلها، والمحاماة حق شرعي لصاحب الدعوى في أن يقيم عنه وكيلاً «صيانة لعرضه وحفظ لماء وجهه»، وكذلك الحال بالنسبة للمدعى عليه، وهناك من يحسد المحامين على ما يكسبونه وعلى مداخيلهم العالية حتى أن أحدهم قال ذات مرة: «إن محاميًا كسب في قضية ميزانية المحكمة في سنة شاملة رواتب القضاة وكافة العاملين»، وينسى هذا أن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
والعبرة ليست في المكاسب؛ فالمحاماة يجب أن تكون رسالة قبل أن تكون وظيفة ومصدر دخل للمحامي، وهي ليست خدمة إنسانية فحسب، بل وسيلة وأداة من وسائل حفظ الحقوق وبسط العدل ورد المظالم، ولذا فإن العدل والنزاهة وبراءة الذمة والأمانة والشفافية وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة يجب أن تكون أولى صفات المحامي مع التزام المصداقية مع الطرفين وحتى مع خصمه في القضية، ونحن -ولله الحمد- لدينا ممن تتوافر فيهم هذه الصفات الكثير والكثير منها، ومن لم يتصف بها قلة قليلة، وفي كل مجتمع هناك من يشذ عن القاعدة والأصل، وما زلت أتذكر قصة محامين اثنين تدافعا عن موكليهما أمام القاضي، ومن الطبيعي أن تكون هناك مصادمات بين الطرفين كما يتصادم أصحاب القضية، وتطلب النظر العاجل في القضية أن يحضر أحد المحامين أوراقًا لإثبات حق موكله فأمهلهما القاضي يومين فقط، وكان أحد المحامين من خارج المنطقة، وحين خرجا من عند القاضي عرض المحامي المقيم في المنطقة على المحامي الضيف الغداء أو العشاء معه في البيت، فتعجب الضيف من دعوة زميله المحامي، وكيف أنه خصم له ويدعوه لمنزله وأصر الداعي وتقبل المدعو ولبى الدعوة، وقال المضيف: أتعهد لك أن لا نفتح سيرة القضية في منزلي. وبعد تناول العشاء لم يصبر الضيف وفاتح المضيف في الموضوع وجلسا جميعاً بهدوء يتداولان القضية، واتفقا على حل شامل يضمن حق الطرفين المتنازعين في هذه القضية التي دامت لسنوات عديدة. وبتوفيق من الله استطاعا التواصل مع موكليهما، وتم الصلح والصلح خير. وهذا لم يكن ليتم لولا محبة المحاميين للخير واعتبارهما أن المحاماة أمانة ورسالة وتوخيهما الحق.
ومن المؤكد أن كل محامٍ يستذكر دائماً وقبل أن يترافع في كل قضية قول الله تعالى: «ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً»، ولذا فعليه أن يخاف الله عز وجل، ولا يخفي الحقيقة وينتصر للظالم وينتزع الحق من المظلوم، وقد سمعت -ولله الحمد- عن كثير من المحامين رفضوا العديد من القضايا ولم يترافعوا عنها، إما لفداحة الجرم المرتكب، أو لأن المحامي يرى عدم أحقية صاحب الدعوى في طلبه أو ما يطالب به، ولا يريد أن يكون مضللاً، ولا يريد أن يخاصم في باطل ويجادل ويدافع عنه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع عنه)، ومن لا يتورع في أكل حقوق العباد بالباطل فويل ثم ويل له لأن من أعان ظالماً على ظلمه فقد استحق جزاءه، وقد يغري الشيطان المحامي كما أغوى صاحب الدعوى بالمال والغنى والثروة فيلجأ للحيل ويتلمس الثغرات ويستغل ضعف المقابل بالشرع والأنظمة فيبهته ويأكل حقه لأنه لا يستطيع دفع أتعاب المحامي أوليس لديه الحجة في القول؛ فمن يرضى بسخط الله عز وجل طيلة حياته مقابل أموال الدنيا كلها، نسأل الله العافية.
وذمة المحامي لا تبرأ بحكم القاضي فقد يكون القاضي غير مطلع على كافة المستندات والأوراق، وهنا لا ينفي مسؤولية المحامي في إبراء ذمته وعدم الانتصار للباطل.