يقيم التجريب السردي حداثته من خلال رفض الجاهز والمحاكاة واستلهام النموذج. مما يعني أنه ليس ثمة كتابة أو أدب ينشأ من فراغ أو ينبع من عدم. لهذا، فلكي ينسجم التجريب السردي مع آفاق انتظار المتلقي الجمالي، ينبغي أن يستمد نسغه من بنيات معرفية/ فلسفية عدة. تستجيب لمقتضيات العصر من جهة، كما تنبش في الذاكرة الفردية والجماعية في الوقت نفسه. بهذا، فإن الأعمال الروائية التي تبنت مسار التجريب باعتباره إستراتيجية معرفية، لا ترتكز على الإفراط في ممارسة التجاوز فحسب، بل تشتغل وفق أفق معرفي عميق. يطرح أسئلة إبداعية جديدة. كما يشتغل على قضايا ترتبط بمرجعيات متعددة. يتحرك مصطلح التجريب على إثرها في أفق رحب، ومتعدد المشارب والرؤى الفكرية والإبداعية. بهذا الوعي، انخرط الروائي العربي في هاجس التجريب السردي. وذلك من خلال البحث المستمر عن إستراتيجية سردية. تشمل مجمل العناصر البنائية والدلالية للنص السردي.
التجريب وإستراتيجية السرد في رواية ‹›سيرة حمى››
سعت الرواية العربية الجديدة إلى الانفلات المستمر من القيود التي تجعل منها مدونة نصية شبه مغلقة، لتتحول إلى خطاب نصي تعددي. يقوم على مختلف المؤثرات الثقافية الحاضنة لها. يتجلى هذا التعدد في مظاهر نصية كثيرة. أبرزها العناصر السردية المكونة للحكاية، وأساليب السرد، وتعدد مظاهر السرد وصيغه، وتعدد مواقف الشخصيات ورؤاها السردية. كما يبرز هذا التعدد في استثمار السارد/الروائي للمرجعيات الثقافية المتعددة. سواء على مستوى اللغة، أو المادة الحكائية (الخام) التي يوظفها السارد (العادات، التقاليد،...الخ). مما أسهم في إثراء البنية الدلالية، وتعدد مستوياتها السردية.
تندرج في هذا الإطار التجريبي الرواية الأخيرة للروائي السعودي خالد اليوسف ‹›سيرة حمى›› الصادرة في طبعتها الأولى عن نادي نجران الأدبي الثقافي بالتعاون مع مركز الأدب العربي بالمملكة العربية السعودية،2021، في 208 صفحات من القطع المتوسط. يقوم هذا النص السردي على إستراتيجية تجريبية خاصة. تعتمد تداخل الأجناس الأدبية، والبناء اللغوي المفعم بالمفردات الشعرية، والاستعانة بالموروث اللغوي الأصيل، لسرد تاريخي معاصر محكم. وذلك من خلال رؤية فلسفية وجودية للحياة والكون بصفة عامة. لكن على الرغم من تعدد المكونات السردية التي تؤشر على المستوى التجريبي لهذا النص، فإننا سنركز على الجوانب التالية: البعد الوجودي/ التأملي، دينامية الوصف، تعدد الشخصيات وتلاحم الرؤية باعتبارها عناصر مهيمنة إذا استعرنا العبارة من اللساني رومان جاكبسون.
البعد الوجودي/التأملي
استطاع الروائي خالد اليوسف في هذه الرواية أن يستفيد من المرحلة التاريخية التي تمر بها البشرية اليوم خاصة مع انتشار الوباء العالمي (كورونا). حيث سجل انعكاساته على الإبداع عامة والسردي على وجه الخصوص. لهذا، هيمنت فلسفة الوجود والحياة في معظم المقاطع السردية لهذا النص الروائي. مما يحول نص ‹›سيرة حمى›› إلى سيرة فيروس وأثره على الإنسانية. صورة سارد الرواية باعتباره قاتلاً للإنسانية جمعاء. لا يفرق بين جنس وآخر، ولا بين ديانة وأخرى، ولا بين عرق وآخر. كما لا يؤثر فيه مناخ ولا تضاريس محددة. يهدد الإنسانية التي يراها متلقي هذا النص الروائي في مهب الهلاك. مما يمنح هذا النص السردي بعداً كونياً/إنسانياً. فهل يوحي هذا البعد بضرورة التواصل بين أجناس الأرض من أجل المصير المشترك؟ كما تتناسل تساؤلات وجودية عديدة على لسان السارد (الصفحة:164، الصفحة:194، الصفحة:195). يقف المتلقي عند هذه الأسئلة الوجودية باحثاً عن أجوبة لا يجدها لدى رجال الدين في مختلف القارات، ولا دعاة نقاء العرق، ولا إنسان الأدغال مقابل إنسان مدن معاصرة. أسئلة تتعدى حدود المنطق والمطلق إلى فضاء يرى فيه السارد البشر أمة واحدة. وإذا كان مصير الإنسان المشترك (الوباء) قد شكل بعداً وجودياً/ تأملياً، فإن فضاء الصحراء، قد منح هذا النص السردي بعداً وجدياً كذلك. يفتتح السارد (شخصية الدكتور خزيمة) سرده بتأملات وجودية (يا لهذا الأفق البعيد الممتد بحثاً عن عناق السماء! يا لهذا السراب المترقرق وسط النهار ليزيدك حيرة)ص:5. يعيش حالة تأملية/ وجودية في جمال الصحراء وروعة سكونها وأبعادها الكونية. ليعقبه السارد الثاني بقوله: (تنهي كلماتك المتجددة دوماً بأسئلة لا تنتهي. هل أنت في قلق دائم أمام معجزة الصحراء التي فتنت بها. خصوصاً بعد زياراتك الأخير لأراضي الصمان الساحرة كما تصفها) ص:6. حيث فلسف السارد الصحراء، وأصبغ عليها رؤيته التأملية/الوجودية. وذلك بتأثيثه السردي للفضاء الصحراوي، عن طريق توظيف أبعاده الأسطورية وعوالمه المسكونة بالدهشة. وبين فضاء المدينة الضاج بالحياة، وفضاء الصحراء المسكون بالأسرار والألغاز، ينسج السارد خيوط نص ‹›سيرة حمى››. يعمل على متابعة صيرورة السرد الواصف للأمكنة والشخوص. وذلك بحكم امتلائها (المدن/الرياض) (الصفحة:100،الصفحة :136). أما بالنسبة للفضاء الصحراوي (الصفحات: 39،43،53،129)، فيتطلب من السارد (الروائي الضمي)، حذقاً في ملء الفراغ والصمت. مما حول الرؤية السردية إلى تأمل وجودي ورؤيوي عميق.
دينامية الوصف والسارد العالم
أغنى الروائي خالد اليوسف نصه السردي ‹›سيرة حمى›› بوصف دقيق وعميق. سواء ما تعلق بالشخصيات الواقعية التي ساهمت في الفعل الحكائي، أو تلك الفضاءات والأمكنة المتنوعة (الصحراء، المدن، شوارع المدن، البوادي،...إلخ) التي دارت فيها أحداث الرواية ووقائعها. حيث يقود السارد القارئ عبر تلك المناطق بشكل دقيق. صاغها الروائي خالد اليوسف بعين ذلك الجغرافي العارف بتضاريس مختلف مناطق المملكة العربية السعودية. مما زاد من وثيرة الوصف في بعض صفحات النص السردي. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الصفحات التالية: الصفحة: 10 (وصف مدينة الرياض)، الصفحة:109 (وصف حالة وفاة)، الصفحة: 142 (وصف الطائف)، الصفحة: 174 (وصف وادي ليه)، الصفحة: 176، (وصف منطقة عسير)، الصفحة:194 (وصف حالة السارد بعد إصابته بكورونا)،الصفحة:195 (وصف مرض السارد). هذه الدينامية في الوصف، جعلت السرد في نص ‹›سيرة حمى›› يقوم على نوع من التناوب بين السارد الضمني وباقي شخصيات النص. لكن على الرغم من أن هيمنة هذا التناوب، فقد ارتبط بشكل أساسي بشخصية الدكتور خزيمة (السارد المحوري)، ورفيقه في الرحلة (شخصية أبي سعد). حيث بني هذا التناوب على صيغ سردية متعددة (الحوار بنوعيه، الوصف، المشاهد السردية). استند إليها السارد لوصف معالم مدينة الرياض، أبراج الرياض، طريق الملك فهد، برج المملكة، طريق مكة، مدينة القويعية. يقول السارد: (سلكت الطريق إلى الرياض، وأنا غير مصدق لما أراه! وقد شعرت بالهدوء والسكينة طيلة الطريق. فلم أعد أرى إلا بعض المركبات تسير في الاتجاهين، وتجاوزت تقاطع طريق الملك سلمان، ومنظر أبراج الرياض العالية أمامي والتي بدت وكأنها لآلئ تلعب في السماء. واختفى الغبش والدخان الذي يدور بين هذه الأبراج) الصفحة:102. كما يصف تضاريس البقاع الصحراوية شمالاً وشرقاً. مثل: أرض الصمان، الدمام، رماح، الدهناء، سراة الجنوب، النفوذ، الأحساء، بلدة الرفيعة، أرض اللهابة، عين هيت، ضاحية لبن، القصيم، قرية الخاتلة وسط الصحراء، منطقة العليا، طريق التحلية، مدينة القويعية، أرض حلبان، مدينة ظلم. لم يكتف السارد بمنطقة نجد، بل اتجه في رحلة وصديقه/ شخصية حاتم غرباً نحو الحجاز ليصف لنا معالم الطريق إلى الطائف. كما يصف السارد أحياءها وشوارعها وميادينها، إلى هضابها وجبالها وأوديتها. حيث ركز على وصف بعض المعالم الحضارية في الطائف: مسجد عبدالله بن عباس، مسجد الهاي، برحة قزاز، شارع أبي بكر، جبال الشفاء، منطقة الردف، طريق الوهط، وادي ذي غزال، ميدان السليمانية، قصر البوقري، قصر الصيرفي، قصر شبرا، حي الفيصلية... إلخ. شكل هذا الوصف الدقيق الذي ميز المسار السردي للرواية، بعداً طوبوغرافيا. اصطبغ في مجمله بالعديد من المعطيات (الجغرافية والتاريخية، والمعمارية) لمختلف الفضاءات التي قدمها السارد.
تعدد الشخصيات وتلاحم الرؤية
على الرغم من تعدد شخصيات النص السردي ‹›سيرة حمى›› التي تناوبت على تقديم المادة الحكائية فإنها تجمع في مجملها بين إنسان الغرب (جبال السراة) المتمثل في شخصية محمد وإنسان الحجاز المتمثل في شخصية حاتم. وكذلك ابن الرياض ومنطقة القصيم و المنطقة الشرقية مما منحها دلالة رمزية خاصة تتجلى في تلاحم وتمازج أبناء الوطن الواحد. ذلك الوطن مترامي الأطراف والمتعدد التضاريس والمناخات من جبال إلى صحارى، وأودية، إلخ... قدمها هذا النص السردي على شكل لوحة متكاملة العناصر سواء في بعدها الجغرافي أو الإنساني التي تقوم عليها العلاقات بين أبناء الوطن الواحد.
على الرغم من تلاحم مستويات البناء السردي واللغوي في النص الروائي ‹›سيرة حمى›› للروائي خالد اليوسف، فإن الوصف يظل السمة البارزة في هذا البناء حيث شكل إطاراً حيوياً لحركة الوقائع والأحداث والشخصيات لأنه تستحيل حركة النص السردي دون وصف. وإن جاز القول يمكن التأكيد على أن نص ‹›سيرة حمى››، عبارة عن رواية الوصف بامتياز حيث يكاد يهيمن بشتى تجلياته الزمنية واللغوية والبلاغية على البنية الكلية للرواية. كما شكل حاملاً حقيقياً لعمق إدراك الروائي لعالمه، ولمختلف شخصيات النص على المستوى المعرفي والفلسفي/التأملي والجمالي على السواء. مما أكسب هذا النص الروائي بعداً تجريبياً متميزاً.
** **
د. سعيد بوعيطة - (المغرب)