د. إبراهيم بن محمد الشتوي
(1)
حين بدأت أدرس اللغة الإنجليزية في موطنها، مما لفت انتباهي وهو كثير، أن بعض الذين يزاملونني في الفصل الدراسي يختارون في خانة الأفلام التي يحبونها «أفلام الخوف» «Horror Movies»، وقد كنت أتعجب عن سبب اختيار هذا النوع من الأفلام، وأتساءل عما يدعو الشخص إلى أن يحب ما يخيفه، أو أن يعيش في خوف، إذ الأصل أن الإنسان يبحث عن الأمن، ويرغب في الطمأنينة، أو يمكن القول: ما الذي يجعل الشخص يرغب في أن يعيش تجربة الخوف؟ حتى ولو كانت هذه التجربة «صناعية» -إن صح التعبير-. هل هناك لذة ما في أن يقعد الإنسان القرفصاء، ويحتبي بيديه -كما يقول القدماء- ثم ينحشر في كرسيه يشاهد المعروض أمامه، وهل في هذه التجربة ما يجذب الانتباه حتى يحب بعض الناس أن يعيشها، فضلاً عن أن يفضلها على سائر أنواع المشاهدات؟
بالنسبة لي لا أجد في هذه المشاهد ما يستحق المشاهدة؛ فأنا لا أحب الخوف أو الفزع، أو الرهبة، وليس شيء أكره إلي من هذه المشاعر، سواء كانت تلك المشاعر ساعة أو سنة وسواء كانت صناعية أم طبيعية ما دامت تنتمي إلى المشاعر السابقة.
لكن الذي يدعو إلى التأمل هو أن هذه الأفلام تلقى رواجاً كبيراً عند صناع السينما، كما تلقى رواجاً لدى الكتاب والناشرين الذين يجدون فيها ما يستحق النشر بالرغم أن بعض الدارسين يؤكدون على حقيقة أن هذه الأفلام لا تعد في النوع الراقي من الأفلام، وإنما من المستوى المتدني الذي يقصد إلى الإثارة دون أن يكون هناك شيء آخر، ولذلك يطرحون مصطلحاً جديدأً وهو (ترقية أفلام الخوف) ويقصدون به محاولة إخراجها من الصورة الذهنية العالقة بها، لتقديمها بشكل أكثر قبولاً وإقناعاً، ومع معارضة آخرين لهذا المصطلح بحجة أن أفلام الخوف أو وفق التسمية الشهيرة (أفلام الرعب) لا تعدو أن تكون أفلام رعب في أي صورة من الصور سواء تمت ترقيتها أم لم تتم ولذا فإنه من العبث القول بترقية أفلام الخوف.
والذين يجادلون في قيمة أفلام الخوف أو الرعب، يقولون: إنها لا تقنع المتلقي، ولا تقدم مادة متماسكة منطقية، بقدر ما تلامس إحساس المتلقي السطحي من خلال الإثارة العابرة، فهي لا تقدم فكرة، ولا تثير معنى حقيقياً في نفس المشاهد، وهذا ما يجعلها في مرتبة أدنى من الأفلام الأخرى، في منزلة متساوية مع الكوميديا، ولذا يرونها لا ترقى إلى الأفلام والآداب الجادة.
وإذا كان القراء والمشاهدون هم السبب الداعي إلى اهتمام الناشرين والمنتجين، فإن الكتاب هم الذين بدءوا هذه العملية، ما يعني أن الفكرة في الأساس جاءت منهم، أي فكرة محاكاة تجربة خوف، أو يمكن القول إن هؤلاء الكتاب لهم العذر في ذلك، فهم يسعون لتقييد تجربة شخص مر بهذه التجربة المريعة، وقد يكون الشخص صاحب التجربة يريد أن يقيدها لحاجة في نفسه؛ إما رغبة في حل عقدة أصابته بعدها، أو لإخبار الآخرين عنها، وبيان مقدار ما مر به من قسوة وعنت، فقد يكون في من يقرأ تلك الحكايات من يحب أن يعيش التجربة أو أن يعرف عنها شيئاً، فيكون مثل أدب الرحلات أو السيرة الذاتية التي يقيد فيها المرء ما عاينه ولاقاه في حياته.
?ومع هذا، فإن السؤال عما يدعو المرء إلى تجريب هذا النوع من التجارب، أو أن يكون أفضل ما يمكن أن يقضي وقته فيه مستمتعاً محل سؤال، أيكون بسبب الاستمتاع بمشاهد تعذيب الآخرين، وتخويفهم، وإرهابهم، فهو نوع مما يسمى ب»السادية»، وهي الاستمتاع بإيقاع القسوة والعنف على الآخرين؟، فالمتعة هنا هي في رؤية الخوف والفزع في عيون الآخرين، وفي رؤيتهم يعانون المشاهد القاسية المروعة ، ويفرون منها فزعين، أم هي -كما سبق القول- رغبة في اختبار هذا الشعور، والاستمتاع بالمعاناة التي تخلفها في نفسه بوصفها معاناة من نوع مختلف يكون الألم فيها نفسياً في المقام الأول، دون أن يتصل بألم حسي جسدي، فهي تقترب من الموقف الآخر «للسادية»، ولكنها بالجهة المقابلة، وتسمى ب»المازوخية»، والتي تعني أن بعض الناس يستمتعون بإيقاع الأذى والتعذيب والقسوة بهم، وذلك من خلال ما يشاهده من مشاهد تحدث في نفسه الألم والمشقة.
أم أن المتعة تكمن في مشاركة أصاحب المآسي مآسيهم، والإحساس بإحساسهم، لإدراك مدى ما يجدونه من مشقة وعنت في حياتهم ليسهم في التخفيف عنهم، أو على الإقل، لإدراك ما مروا بهم من وحشية وقسوة من قبل الآخرين، فلا يلومهم إن بدر منهم ما لا يقبل أو لا يتفق مع الذوق العام بناء على المعاناة الشديدة التي مروا بها من التجارب التي عاشوها وتصورها آداب الخوف وأفلامه، فهو إذاً من المشاركة المجتمعية إن صح التعبير.
في بعض الدراسات يذكر الكاتب أن هناك أهدافاً من الكتابة تختلف عن سواها من الأهداف، فقد تكون من الرغبة في التنفيس عن تجربة معينة قاسية مربها الكاتب، وقد يكون في محاولة تجريب أقصى ما يمكن أن يصل إليه خيال الإنسان في إنشاء وسائل التخويف والإرهاب والقسوة وطرقها كذلك، خا صة وأننا نعرف من تاريخ الفن أن هناك عدداً من الرسامين كدافنشي مثلاً تفنن في رسم وسائل الحرب والضرب والطعان، ما يعني أن الفن قادر -للأسف- على تجاوز المألوف والعادي من أدوات التعذيب والوحشية إلى ارتياد عوالم أخرى، وعلى هذا تصبح الكتابة قريبة من كتابة الخيال العلمي وإن كانت ليست منها بوصفها -كما يقال- نوعاً أدبياً مستقلاً