د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** تساءلَ كثرٌ تابعوا هذا «الإمضاءَ»: أهو سيرة ذاتيةٌ مُنجّمةٌ تنوي جمعَها في كتاب؟ وإذ للاستفهام جانبان فالإجابةُ: نعمٌ ولا؛ فهو ليس سيرةً ذاتيةً وليس هذا هدفَه، وإنما هو استكمالٌ لمشروعٍ سابقٍ اعتنى بأسماءٍ ثقافيةٍ ومجتمعيةٍ عرفها صاحبكم عن قربٍ، وصدرت عام 2011م في كتابه: (إمضاء لذاكرة الوفاء)، وقد يتهيأُ نشرُ متفرقِ ما جاء بعده -بعون الله-.
** أما سيرته الشخصية، وهي تمسُّ جيلًا عاش التأريخَ ولم يكتفِ بقراءته، فقد سطّر فيها صفحاتٍ أوليةً يتمنى أن يسعفه الوقتُ لإتمامها متوجِّسًا من أن يقعَ فيما انتقده من إثقال وإملال بعض السير التي استمتعَ ويستمتعُ بجيدها؛ فقسمٌ مما يُنشر أقربُ إلى «التداول العائليّ»، وما يودُّ أن يلزمَ قلمه به قيدٌ قاسٍ لا يدري أيطيقُه أم يصرفُ النظر عن الفكرة.
** في بعض حكاياتنا ما قد يبدو غريبًا على شباب اليوم، وسبق أن وصف صاحبكم جيلنا بأنه «آخرُ أجيال الشظف وأولُ أجيال الترف»، ويذكر أنه لم يمتلك سيارةً إلا في العام الأخير لدراسته الجامعية، وكانت سيارة كورولا اشتراها له والده -رحمه الله- بمبلغٍ يقل عن عشرة آلاف ريال، ولم تكن مكيفةً وزجاجها يرفع باليد، وصدمته سيارة البلدية الضخمة الخاصة بنقل المخلفات في أول يومٍ قادها، وتبع ذلك أنْ صدمه مواطنٌ في منطقة الديرة بالرياض فعزّت عليه سيارتُه الجديدة ولم يسامح المخطئ الذي اكتفى بإعطائه تسعةً وتسعين ريالًا عدًا، معظمها من فئة الريال والخمسة، وكان حريًا به المسامحة فما أسمنتْ ولا وفتْ، ومرَّ بحالاتِ اصطدامٍ خفيفةٍ تاليةٍ فلم يكلف نفسه حتى النزول من السيارة لمعرفة الأضرار مكتفيًا بإشارة سلامٍ من يده.
** لن تبرحَ ذاكرتَه مفارقاتُ منزل العزوبية في الرياض حين لم يكن هناك فرعٌ للجامعة في منطقته، ولم يتحْ السكنُ الطلابيُّ وقتها، كما لم يهيئ نفسه للسكن مع أصدقاء يختارهم ويختارونه، واضطرَّ لقبولِ شروطٍ من صفحتين ممتلئتين كتبها له بعضُهم كي يمنحوه غرفةً تحت الدرج لا تزيد مساحتها على ستة أمتار مربعة أثَّثها من «حراجي ابن قاسم والكويتية» بطاولةٍ وكرسي وسرير وفرشٍ من النوعِ الأرخص، والأجملُ أن كان لدينا عاملٌ عربيٌ غير متفرغ وراتبه الشهري ثمانون ريالًا ينتمي لإحدى المطابع ويأتينا بملازم من مجلة اليمامة قبل صدورها.
** نوى -في لحظات ضيق- قطعَ الدراسة والعودةَ إلى مدينته لعدم تأقلمه مع الجو الجديد، وحيث كان ابنُ عمته مديرًا لإحدى ثانويات الرياض فقد حرص على استشارته وآنس منه نصحًا صادقًا معززًا بأمثلةٍ لحالاتٍ مشابهةٍ لم تستسلمْ لمشاعرها المؤقتة فبقي وكانت نتيجتُه الأولَ في ترتيبه بين طلبة خمس قاعاتٍ شاركها السنة الجامعية الأولى، ولا يزالُ يشعرُ بامتنانٍ لا يُحدّ لقريبه الأثير الأستاذ محمد بن عبدالله الشوشان -حفظه الله-.
** الذاكرةُ هطولٌ قد يجفّ.