(1)
لم تستقبله الابتسامات، لم تقابل بكاءه الزغاريد، وحده الذي لم تكن دموعه إيذانًا بالفرح، كان البكاء أول ما عرفه واستقبله في الحياة، فلا وجه تهلل بمقدمه، ولا مباركة تحررت. منذ البداية أدارت الحياة ظهرها له، ففي الوقت الذي كانت أمه تصارع المخاض، كان أبوه في الغرفة المجاورة يحتضر، والنحيب يرد على بكائه واخزًا أذنه، الأم بصوتٍ متهدج، ولد أم بنت؟، القَابِلَة ترفعه وهي تتمتم يا لسوء هذا الطالع، تنهرها الأم: «اذكري الله، الإنسان يولد بدوده».
هكذا افتتح «عوض» حياته، تناول الارتعاشة الأولى من شفة أمه على هيئة قُبلة، هل كانت الحياة صريحة معه من الوهلة الأولى؟ اسمه لم يُختَر له إلا بعد أسبوع من ولادته، نسيه الجميع أو بالأصح حاول الجميع تناسيه، فأي مولودٍ هذا الذي يحمل الموت في أنفاسه.
الأم تندب زوجها، تفتش عن مناقبه لتعددها، ترحل إلى ذاكرتها، تغوص، تنبش، لم يترك لها شيئًا تسد به هذه الآذان المتحلقة حولها، تتجاهلهم وتطيل النظر في مولودها فيلهج لسانها مرددةً: أنت العوض.. أنت العوض.
انتشل عوض أمه من أجواء الحزن فأطبق على وقتها، واستولى على قلبها، وأصبح وجهتها ووجهها، وحتى لا يضيع تعداد عمره وتتأكد من بلوغه سن الختان، علقت حبلاً يتدلى من سقف الغرفة وحبكت في استطالته عقده، لتتعاهده بعد ذلك كل عام بإضافة عقده.
لم تمهلها الأيام فسحةً من الابتسامة حتى أدركت أنها أمام طفلٍ مختلف، نتوءٌ بارزٌ في الظهر، وانخسافٌ مخيفٌ في الصدر، وقعت في دوامة من الكآبة، تملكها حزنٌ عظيمٌ، وصرخت الدعوات منها: «يا رب أريده أن يحملني لا أن يحمل هذا الكيس بظهره».
الشكوك حول جسد الطفل تساور عقلها، وتثقل روحها بخوف عظيم، فبعد الحدبة اكتشفت العين اليمنى المنطفئة، ولولت ردحًا من الزمن: جسدٌ تملؤه العيوب، جسدٌ تبصق الحياة في وجهه مذ صرخته الأولى. كل هذه التشوهات يا الله؟، لماذا طفلي أنا؟، أرحام القرية مليئة بالأطفال؟ أريده خلاصًا لي يا ربي؟ تصمت هنيهة إلا من النشيج، ثم تجمع قواها وتمسح دموعها بطرف طرحتها، تتعوذ من الشيطان وتستغفر ربها، تتوضأ وتباشر القبلة لتصلي في وجه حزنها، وتُفزِع بدعواتها الشقاء الذي يتسلق ظهر ابنها.
(2)
لم يكن «عوض» هو الاسم الوحيد الذي فازت به هذه التشوهات المحمولة على قدمين نحيلتين كمسمارين زهد عنهما اللحم، فأطفال القرية الذي كان يحرص على اللعب معهم والتقرب منهم، كانوا يسمونه «كيس الدمن». وفي كل مرة يجزم بأنه لن يرافقهم ثانيةً، فتربت أمه عليه نافضةً عنه الضجر:
«الإنسان هو من يمنح الاسم القيمة، اصنع لاسمك معنى كما تحب».
أما الرجال فانتشر بينهم باسم «الأحدب»، وكلما هتف أحدهم له بهذا الاسم لم يجبه، محاولاً إجبارهم على الاعتراف باسمه الحقيقي، ومانعًا لسانه من الانزلاق.
في حين أن نِسوة القرية اللاتي كن يهددن صغارهن بخِلقته: «اسكتوا ولا خليت بر معيضة بظهره الكبير ياكلكم»، «اغمضوا أعينكم وناموا وإلا جاءكم بر معيضة معلقًا من قدميه في السقف»، بتهديداتهم صنعوا منه كائنًا مخيفًا ومنبوذًا، وفوق هذا نسوا أن له أباً واسماً وأسموه «بر معيضة».
وحده هذا الاسم لم يكن يشعل غيض عوض فأمه بالنسبة له أجل ما يمكن أن ينتسب له، فما إن ينظر في وجهها الوضاء حتى يتحول الضيق فرجًا، والعسر يسرا، كانت عصاه في وجه كل نائبة، يتوكأ عليها عندما ينوء بحمله، ويثرثر بشكواه إليها فتنتصر له كلماتها وتعيد بناء دواخله.
أورث له أبوه جملةً من الشتائم، اتخذها أقرانه ذخيرةً يصوّبونها نحو كبريائه كلما همت نفسه بالإعلان عن وجودها، فعلى مسرح الحياة بالقرية المتسلقة الجبل كانت حادثة وفاة بن عويضة تعيد نفسها فوق كل صفاء، في بادئ الأمر لم يصدق عوض ما يرشقُه به الصبية إرثًا عن أبيه، ولكن أمه وافقت ما يروى وقالت للأسف هذا ما حدث:
«في السنة الثانية من زواجنا عاد بن عويضة للجبل بعد أن قصد مدينةً يُقال لها جدة تتوسط مكة والبحر، عاد والجدري بفقاعاته القبيحة تطفح من جلده، اجتمع الشيخ بأهل الرأي وانتهت بهم المشورة إلى عزله، فأبلغوه بالأمر وامتثل دون مقاومة، صعد إلى الغرفة التي خُصصت للعزل في رأس الجبل، فكلما فجعت القرية بمرضٍ عضال يقتحم جسد أحد أفرادها كان عليه الصعود للغرفة وانتظار الموت بصمت، ومع هذا لا يسلمونه للجوع والعطش بل يؤمنون له كفايته من الطعام والشراب بشكلٍ دوري، وعندما صعد أحد الرجال ليوصل لابن عويضة الزاد، لم يجد ردًا على سلامه فتجرأ واقترب من باب الغرفة الموارب ليجده مسجى على الأرض بعدما أسلم روحه لخالقها، انتشر الخبر بين القوم وعقد المجلس تحت السدرة، وانتدب أبوك ليحضر الكفن من سوق السبت، فاحتزم بجنبيته ونزل من حينه يدفع الجبل خلفه، وكان مقررًا أن يصلى الظهر على الميت، فالجثة لا تحتمل أكثر من هذا التأخير فالله وحده أعلم منذ كم يوم وافته المنية، لكن أباك تأخر فجاءت صلاة الظهر والعصر أيضًا وهو ما يزال غائبًا، فاضطر الرجال لتكفينه برزمة من العلف، ودفنوه في مقبرة المعزولين برأس الجبل. نزلوا والغضب ينضح من وجيههم، أرسلوا في طلب أبيك ولم يكن قد رجع، لم يدخل البيت إلا قُبيل الفجر، وبعد الفجر كان أحد الأعيان بالباب يطلبه الحضور حالاً إلى السدرة حيث الشيخ ورجال القرية بالانتظار، قام أبوك وتعجل إليهم بالوصول، وجدهم قد استشاطوا غيضًا وجلهم لم تذق عينيه النوم، تأمل نظراتهم وتقاسيم وجوههم، فسابقهم قبل أن يتكلموا وقبل رؤوسهم أجمعين واعترف بخطئه وساق لهم ما عرفته ذاكرة الرجال من جُمل الاعتذار، طلب منه الشيخ أن يقول له ما السبب الذي أخره عن المهمة التي كُلف بها، لم يجب والتزم الصمت، طأطأ رأسه وسافر في صمته، مكثوا يتداولون في شأنه وهو لا يحرر شفتيه بكلمة، كان الرأي الأول أن ينفى من القرية، والرأي الثاني أن يحج عن بن عويضة، أما الرأي الأول فرفض بسببي لأنني زوجته ومضطرة للرحيل معه، وأما الثاني فلأن بن عويضة قد حج مرتين وهو في جدة، ومن ثم دار الرأي على التنكيل بأبيك واتفقوا على أن يُبطح وتوضع في فمه ثلاث بعرات ويمشي من فوقه عشرة رجال بأحذيتهم».
- لماذا لم يقل لهم ما الذي أخره؟ أين كان أبي ذلك الوقت كله؟!
- اسكت يا ولدي، أبوك مجنون زير، ما أن يُدق الزير وتستوي الصفوف في عرضةٍ أو خطوة حتى ينضم لها وينسى نفسه، صادف نزوله السوق يوم ختان خمسة من أبناء آل مشول.
- آآه .. سامحك الله يا أبي.
(3)
ما إن سمع عوض بالمدرسة حتى تراءت له الأحلام، وأخذ يرى في نفسه طموحًا لا يرضيه إلا مقاعد الدراسة، فمن بعد أن رفض الشيخ وجلساؤه أن يلحقوه بالفتيان الذين سيختتنون، وهو عازمٌ على صناعة نفسه، لا ينسى عندما اقتحم عليهم مجلسهم تحت السدرة مستنكرًا استبعاده من بين أقرانه، أسكَت الشيخ الرجال من حوله وظل يستمع لعوض وهو يتوثب يبنهم ويلوح بحبل العمر ذو العشر عقد أمامهم:
- اختنوني معهم.
أخرج الخنجر الذي يحوط خاصرته، وكرر مقولته:
- اختنوني معهم، وإلا ختنت نفسي الآن أمامكم.
قام إليه الشيخ ومسح على رأسه، معجبًا بشجاعته:
- يا ابني، أترى هؤلاء الرجال، مكثوا أيامًا يتداولون أمرك، وأجمعوا أن بنيتك لا تحتمل، رفضوا حبًا فيك وخوفًا عليك.
أزاح يد الشيخ عن رأسه بهدوء وحدجهم ببصره، واحدًا واحدًا واستدار ورجله تركل كل ما تقع عليه وفمه مليء بالكلام.
منذ ذلك اليوم وهو يبحث عما يحقق ذاته، ويعلن وجوده بينهم، وجاءت المدرسة ورأى فيها الخلاص الذي يحلم به، أبدت أمه رفضًا واسعًا لفكرة المدرسة، وما انفك يحاول إقناعها، وفي كل محاولة تعيد إليه تخوفها من عدم تحمله لمشاق الطريق ومفاجآته من الجبل إلى القرية بجانب الوادي:
- جسمك لا يقوى، وقلبي أيضًا لا يحتمل، فلا تحملني وتحمل نفسك ما لا طاقة لنا به.
فكر مليًا، تمهل مع كل الحلول التي تجوب رأسه، وفاض به الأمر إلى استشارة جارتهم، والتي أشارت عليه بأن تنزل معه للوادي ويستقران هناك، احتفل بالفكرة، ومط فمه في ابتسامة إلى أذنيه. مكث بقية اليوم يحبر الكلام في صدره، ويُعلِب الأجوبة في عقله، مخمنًا كل الأسئلة التي قد تتفوه بها أمه، وبعدما استرسل الظلام، وملأ جوانب الجبل، وبدأ فانوس غرفتهم الحجرية يرتعش بصفرته مزيحًا الظلام، أمي:
- وجدت حلاً للمدرسة، نودع الجبل ونسكن الوادي معًا.
- كيف؟ من أين لنا بيت يضمنا؟ غنمنا؟ كيف سنعيش؟
تاهَ في صمته قليلاً، واستعاد عزيمته على إقناعها:
- حلمي أن أتعلم، هو حبل النجاة الوحيد لوجودي، أرجوك.
تبادلا الصمت، كل شيء سُلِم للصمت والسكينة، الظلال وحدها تتراقص على جدران الغرفة، ونطقت بعد أن كاد يغشاه النعاس:
- ولد الشيخ، وولد الإمام، وأولاد دخنة، كلهم لم يتمكنوا من إكمال سنة واحدة في المدرسة وأنت تتكلم عن ست سنوات.
ارتاح عوض لرد أمه، وزف البشرى لنفسه: انتقلت العلة لعدد السنوات إذن، هذا جيد، ثم تمهل يبحث عن إجابة تليق بامرأة تناوشتها الأقدار ونهشتها الشيخوخة، ووقف بين يديها وتحدث بثقة وحزم:
- ولكني ابن معيضة.
انفرجت شفتي الأم قليلاً، معلنةً عن ابتسامة زهو ورضا، واطمأن عوض لإجابته وسارت تباشير الفرح في روحه، لكن الأم لم تتركه للفرح، وعاجلته:
- لكن....
رد سريعًا: وماذا بعد يا أمي؟
- أين ستسكن، ومن أين لك الطعام؟
- ألم أقل لك إنني ابن معيضة.
قالها هذه المرة وهو يتأمل وجهها الذي رسم عليه الرد عينين مضغوطتين تحت خدين متكورين من إثر انفرادة شفاهٍ فرِحة.
(4)
أرسلت الأم من يستطلع لها أمر المدرسة ومتطلباتها، فعاد لها الرسول بأن أمامها شهرًا لتعاود استقبال الطلاب، والمطلوب ورقة من الشيخ تثبت اسمه ونسبه وعمره، صعقت الأم من المطلوب:
- بالله عليك كيف سيكتبها الشيخ، لا أحد في هذا الجبل يجيد الكتابة.
- لم أغفل هذا، لذا ذهبت لابن شيخ آل مشول وكتبها لي وها هي، وكل ما علينا الآن أن يختم عليها الشيخ، والانتظار لمدة شهر.
أخذ عوض الورقة وانطلق بها للشيخ في مجلسه تحت السدرة وطلبه أن يختمها، تلكأ قليلاً وانحنى كل اثنين من جلسائه على بعضهم يتندرون ويتهكمون بصوتٍ تعدى الهمس للإسماع، لم يمنحهم ردًا وتركهم لسدرتهم. بدأت أيام الشهر بالتساقط، اختلطت مشاعر عوض ما بين طامحٍ في إنشاء قلعةٍ لذاته بدلاً من هذه القشور، وما بين الخوف من المجهول وهذه المغامرة وما تخبئه من مخاطر، اعتصر الفتيان الذين لهم تجربة - فاشلة بالطبع - في المدرسة وجمع المعلومات من الأفواه دون تحقق.
اقتربت نقطة الحلم، يومان فقط ويتعلم القراءة، يومان فقط ويشق طريقه ليصبح الوحيد في هذا الجبل يجيد القراءة والكتابة. أقنعت أمه أحد الرجال بإيصاله للمدرسة، متعذرة بأنه عشر سنوات مذ بكائه الأول لم يغادر هذا الجبل.
وصل عوض المدرسة قبل البدء بيوم واحد، ونام ليلته عند باب المدرسة، في الصباح وجد نفسه بورقته في حوش كبير تتوزع فيه ثلاث غرف حجرية، ومجموعة متناثرة من أشجار السدر، شعر بقبضة قاسية على يده: «أوووه طالب مستجد، ودي الأوراق للمدير» وأشار بيده نحو أكبر الغرف. استلم المدير الورقة منه، انقلب وجهه عن الترحاب وتعاطف النظرة الأولى، «لا الوزارة قادرة تزودنا بمعلمين، ولا إحنا قادرين نفتح فصل»، عوض مغروسًا في منتصف الغرفة والنقاش حول مآله مشتعل، حتى انتهى بهم الأمر إلى قبوله، وكونه الطالب الوحيد فلا حاجة لفصل مستقل وإنما يلحق بالصف الثاني وبعدما ينتهي المعلم من الشرح، يبدأ بالشرح له منهج الصف الأول الابتدائي.
لم تكن أشجار السدر بظلالها الممتدة إلا الفصول التي صافحت تحتها يدي عوض القلم والكراس، وخط اسمه في ظلها، أما الثلاث غرف، فكانت الأولى الإدارة والثانية غرفة المعلمين والثالثة غرفة نوم ومعيشة للمعلمين، نشأت مشاعر عطف من جهة المعلمين ومشاعر احترام وإعجاب من جانب عوض، هذه المشاعر أفضت بأن سُمِح لعوض بأن ينام في المدرسة، وبفضل هذا القرب من المعلمين توسعت معرفته بالإنصات لأحاديثهم الليلية، وعاش مع أناسٍ من دول بعيدة لا يعرف عنها شيئًا، الأستاذ معتز والأستاذ بابكر من السودان، والأستاذ أيمن والأستاذ جمال من مصر، والأستاذ صلاح والأستاذ عصام من الأردن، ومدير المدرسة من سورية.
وسط هذا المزيج من الثقافات والعادات، وجد ذاته تتشكل على مهل. وبفضل الحماسة والدافعية للتعلم التي قدم بها للمدرسة كان سريع الاستجابة حاضر البديهة على الدوام، فعاش أيام الدراسة في محبة وإقبال، لا يصعد للجبل إلا في إجازة ما بين الفصلين والإجازة الصيفية، تذوقت روحه السعادة ولم يتعكر صفوه إلا عندما بلغ الصف الرابع، جاء مندوب المركز الصحي وفحصه، وجد أنه لم يختتن بعد، انقلب حاله وتكدر عيشه، فخَفَتَ فهمه وقصر استيعابه. وحتى لا تفقد المدرسة طالبًا بنباهة عوض تطوع الأستاذ عوض بمهمة ختانه، ومع الفجر أردفه خلفه على ظهر الدباب وانحدر به نحو المدينة وفي المركز الصحي أجرى دكتور المركز الختان لعوض بإشراف وحرص من معلمه. كان يتوقع الأستاذ معتز من طالبه أن يصرخ ويبكي ولكنه كان هادئًا متماسكًا وكأن الذي يختتن شخصٌ آخر.
ركضت السنوات الست، وفي صيف 1970م تسلق عوض الجبل متوجًا بشهادة الابتدائي، فاحتفل به أهل الجبل أجمعين، ذُبِحت الخراف، دُق الزير، أطلق الشيخ من بندقيته ست طلقات، وصدح اسمه ملحقًا بأبيه لأول مرة في الجبل «عوض بن معيض»، ومن يومها وهو أحد الرجال الذين يكتبون مصير الجبل.
** **
- فيصل الشهري