في العام 1939 وجه الانتداب الفرنسي للشاعر والسياسي ورجل الاستقلال السوري فخري البارودي تهمة دعم الثوار وحيازة سلاح بشكل غير قانوني، مما اضطره للجوء إلى الأردن، حيث بقي فيها حتى العام 1940، ومنها قرر أن يجرب حظه في العراق، ولكنه لم يمكث هناك سوى ثلاثة أشهر، يروي في مذكراته أنه رأى فيها العجب من تسلط الإنكليز على الحكومة هناك وشكلية الحكومة والبرلمان وسائر أجهزة الحكم العراقية، فكتب وقتها قصيدة وصف فيها حال البرلمان العراقي، يقول فيها:
حكومتنا السعيدة ذات شكلٍ
نيابيٍ يُدار ببرلمانِ
ودستور حماهُ مجلسانِ
من الأعيان والنواب ثاني
وفي بغداد قانون ولكن
بلا وتر يُحرك بالبنان
فيلعب فيه أرباب الكراسي
على توقيع حاجات الزمان
وأعضاء المجالس لم يبالوا
بما تلقى البلاد من الهوان
وأحرار البلاد بكوا دماءً
على ما ضاع من عذب الأماني
فشعبٌ يرتضي هذا حريٌّ
بأن يبكي على مر الزمان
فهل صحت نبوءة «شيخ الشباب» فخري البارودي للعراق والعراقيين؟
الطريف أن البارودي، صاحب «بلاد العرب أوطاني» كان عضواً في البرلمان السوري، منذ المجلس التأسيسي عام 1928، وحتى جلاء الفرنسيين عن سوريا عام 1946 أو بعدها بعام.
لكن البارودي لم يكن مطواعاً ولا أداة تصفيق خلال ولايته النيابية، بل ساهم في وضع الدستور والدفاع عن الحياة النيابية، وكان رأس حربة في كل حراك سياسي أو ثوري ضد الانتداب الفرنسي، وسجن وظل ملاحقاً من قبل السلطات الفرنسية، لكن الشعب الذي سماه «شيخ الشباب» كان دائماً يحمله إلى البرلمان رغم الانتداب.
البرلمانات العربية ونوابها في القرن العشرين، كانت وجهة مفضلة لهجائيات الشعراء وسخريتهم وتندرهم، إذ إن معظم تلك البرلمانات كانت ناطقة باسم الحكومات المسيطرة ومنفذة لإراداتها، بعيدة كل البعد عن هموم الشعب ومطالبه، وهي التي تدعي تمثيل الشعب والكفاح في سبيل تحصيل حقوقه!
وللبنان الحظ الأوفر في الغالب من هجائيات الشعراء للنواب، ومن ذلك أنه في العام 1972 أوفدت صحيفة «النهار» مندوبها لاستطلاع آراء الناخبين بالمرشحين للدورة البرلمانية، وكان الشاعر اللبناني موسى الزين شرارة (1902- 1986) من المستطلعة أراؤهم، فقال شعراً:
يا شعبُ حسبك طاعة لمعاشرٍ
حسبوا الذي تسدي إليهم واجبا
أتخمتهم شبعاً وشدت قصورهم
وقبعت عرياناً بكوخك ساغبا
ولمن تألَّه حين أصبح نائباً
من عرينا والجوع يقبض راتبا
إن جاءه العاني الفقير بحاجة
ألوى له جيداً وهز مناكبا
واليوم جاء الانتخاب وجاءنا
يبدي ويصطنع ابتساماً كاذبا
ولعل وصف الشاعر والسياسي السوري خليل مردم بك للنواب الذين سماهم «النوام» هو من أقسى ما صدر بحقهم، يقول:
البرلمانُ وَهَلْ أتاكَ حديثُهُ
وَحديثُ من فيه مِنَ النُوّامِ
نُقلوا إليه ناكسينَ رؤوسَهمْ
نَقْلَ الجبانِ لساحةِ الإعدامِ
مَلَكَ الحياءُ عليهمُ أبصارَهمْ
فعيونُهمْ بمواطئِ الأَقدام
وَإِذا رموا عن غيرِ قصْدٍ نظرةً
نظروا بعينِ الأحولِ المتعامي
حقَروا نفوسَهمُ فلم تُرفعْ لهم
أَيد لردِّ تحيةٍ وَسلام
حتى إذا أخذوا مجالسَهمْ به
ضاقَ المكانُ ببسْطةِ الأجسام
عَكَفَتْ زواياه عَلَى أصنامِهمْ
من لي بإبراهيم للأصنام!..
أمنية مردم بك لم تتحقق، وما زالت الأصنام تجثم على رافعاتها، ولم تعد البرلمانات على اختلاف مسمياتها تحضر في اهتمامات الناس وأخبارهم من خلال مكاسب حققتها أو طالبت بها لهم، وإنما من خلال الشجارات والحفلات المسرفة والاختلاسات واستغلال المنصب، منصب تمثيل الشعب والتمثيل عليه!.
** **
- ياسر الأطرش