عرفت الشاعر السفير الوزير غازي القصيبي -رحمه الله- منذ أربعين سنة خلت, وذلك عن طريق ديوانه الموسوم بـ(الحمى).. فأصابني بحمى الشعر. حيث كان ديوانه تحت وسادتي, أخذ منه وردًا كل ليلة قبل خلودي للنوم.
حيث كان أول ديوان اقتنيه, وجاء متزامنًا مع مراهقتي الهادئة وقتذاك.فكبح جماحها, وهذب طبعها مع أن الديوان يضج بقصائد الحب والصبابة, لكن كما يقول الشاعر:
((عاطفات الحب ما أبدعها
هذبت طبعي وصفت خلقي
حرق تملأُ روحي رقة
أنا لا أنكر فضل الحرق))..
ومن قصائده التي حركت سواكني, وهيجت أشجاني قوله:
***
يا أعزَّ النساء.. همي ثقيلٌ
هل بعينيكِ مرتعٌ ومقيلُ؟
هل بعينيك.. حين آوي لعينيك
مروج خضر وظلٌ ظليلُ؟
هل بعينيك بعد زمجرة القفر
غديرٌ... وخيمةٌ.. ونخيلُ؟
يا أعز النساء.. جئتك جوعان
طعامي كآبةٌ وذهولُ
يا أعز النساء.. جئتك حيران
فأين الحادي وأين الدليلُ؟
يا أعز النساء.. جئتك ظمآن
فأين الأكوابُ والسلسبيلُ؟
يا أعز النساء.. جئتُ حصاناً
مُثخناً هدَّه السباقُ الطويلُ
كُسرت ساقهُ فَجُنَّ إباءً
كيف يحبو هذا الجوادُ الأصيلُ
***
أين ولَّتْ براءتي؟ أين طُهري؟
أين ذاك الفتى العفيفُ الخجولُ؟
كبر الطفل شيَّبته الليالي
وعرَّته من صباه الفصولُ
قبضةُ الأربعين تصهر روحي
فأحاسيسي العذارى كهولُ!
لم تعد ثَم شُعلة من حماسٍ
سُكِبَ الزيت واستراح الفتيلُ..!
تلك الملامح الشعرية عند القصيبي رسمت لي خطى الذائقة الشعرية, وأخذت بيدي إلى درب الشعر ومباهجه.
فكنت مشدودًا منذ مراهقتي وما قبلها باللغة الشعرية وأفانينها.
فالقراءة الشعرية عند القصيبي تتمتع بالوضوح والجلاء لما فيها من شفافية وصفاء, خالية من الغموض والتعقيد فاللغة على طرف شفتيه, كأنه يقول:
((الديوان لك, والقصيدة للناس))...كما ترى في قوله:
لمي ضفائرك الشقراء وابتعدي
أخشى عليك اللظى الموار في جسدي
أخشى عليك معاناتي.. مكابرتي
تمزقي.. يقظة الآلام في سهدي
تشردي في بلاد الله أذرعها
خطوي جريح.. وقلبي نابض بيدي
* * *
يا زهرة بطيوب الصبح عابقة
إني أتيت وريح الليل في كبدي
يا ضحكة بالصبا الممراح صاخبة
أما رأيت خيوط الدمع في كمدي؟
ويا حمامة دوح تستريح على
فخ من الشوق.. إن لم ترحلي تصدي
* * *
حسبي وحسبك حلم في تنفسه
ما في العوالم من طيب ومن رغد
عشنا على راحتيه نشوة ضحكت
لنا.. وما ابتسمت قبلا على أحد
ما كان يوما ولا يومين موعدنا
بل كان عمرا وعشناه إلى الأبد..
هذا الجموح المطرد في لغته وشاعريته ينبو عن غزارة في فكر لغته الشعرية.. وكأنه يعيد قصة الخلود بين آدم وحواء. فالقصيدة أنثى تناسلها الشعر ووضعها أنثى كغمغمة شجية يرن بها جرس الليل في عتمة الوالهين.
فقد شيد القصيبي عوالما من الشعر في الحب والوطن.. فكان حقًا إيقونة عطاء في مساره وسيرته الحياتية... رحمك الله أبا فارس.
** **
- محمد الشقاق