«الجزيرة الثقافية» - حاوره: جابر محمد مدخلي:
الروائي التونسي شكري المبخوت للثقافية: في روايتي الطلياني «جوانب شخصيّة. فلا أعتقد أنه يوجد كاتب روائيّ لا يوظّف بعض تجاربه وذكرياته ومعايشاته في نصّه. لكن هذا الجانب الشخصيّ لا يوجد، حيث يعتقد القرّاء على سبيل التقريب أنّه ذاتي شخصيّ...».
في مهاتفة دافئة أبلغته قبل بعث هذا الحوار إليه أنّ «مرآة الخاسر» هي جزء ثانٍ غير مصرّح به لروايته «الطلياني»، فبلغتني ابتسامته -المؤجلة - وهو يصطدم بسؤالي العريض حول هذا الجزء حين وصله الحوار. وبما أننا أمام الخسارات فلا بد أنّ «الرابح يبقى وحيداً» كما في رواية باولو كويلو . ولأن الروائي التونسي شكري المبخوت صرّح «بأنّ الرواية تكتب الخسارات والخيبات لا الربح والفوز في تقديري، وهي الوظيفة النقديّة للسرد عامّة» فلا بدّ أنّ ما يكتبه نابعٌ عن قراءة فاحصة لا تحتمل المواربة، ولا المُداهنة .. وهذا ما جعله مقروءاً في الوسط الثقافي العربي بأكبر شريحةٍ.
ويعدّ المبخوت الذي يحلّ على «الثقافية» ضيفاً في حوارٍ مفتوح حول تجربته السردية ومسيرته الكتابية واحداً من أهم الروائيين العرب الذين تأخروا مهما بدا لنا تقدمهم عن الولوج في مصبّات نهر السرد مع كامل الإمكانات والرؤى الإبداعية لديه؛ كيف لا وهو الذي قضى أكثر من ثلاثة عقود في الكتابة النقدية، والتحليلية، والجمالية، والسير الذاتية. وتأتي هذه الأهمية كونه حين قرر نشر روايته «الطلياني» كان العالم العربي بأكمله ينصهر ويذوب في شوارعه ناسياً لغته العربية ولهجاته حاملاً التهديدات، والتنكيرات، والويلات، والعبارات التنكرية الانتقامية. كيف لا وهو الذي بدأ فيها بما أوصلت تونسه العظيمة إلى خراب تحت وطأة ما يسميه الساسة «ربيعاً عربياً» فيما هو خريف تساقطت معه أوراق بشرية شابّة ثمينة من شجرة عالمنا العربي المباركة .. ومن ثم عاد ببطلها إلى جذور ما وقعت فيه بلده من ثورات أولى «وجذور وإرهاصات في صراعات مجتمعيّة وثقافيّة لم تحسم في زمنها فعادت بعد 2011 - كما سنقرأ في حديثه - .
إنه أكاديمي ، وناقد، وروائي ، وكاتب يعشق وطنه ويألفه. إنه مخلص لجميع مشاريعه الإبداعية بامتياز؛ للحد الذي إن تتبعت مسيرته الإبداعية التأصيلية فلن تجد نوعاً أدبياً يتداخل مع نوع آخر وكأنه بهذا مؤسسة ثقافية إبداعية قائمة بذاتها.
نحن معه اليوم في حوار يصارح فيه قرّاءه عبر «الثقافية» بما لم يقله من قبل .. فإلى نص هذا الحديث الصريح مع الأكاديمي والروائي التونسي شكري المبخوت.
1 - برز الأديب والأكاديمي شكري المبخوت في مشهدنا العربي بشكل أكبر كروائي بعد عمله السردي «الطلياني»، حين حقق هذا النص البوكر العربية وجوائز أخرى، .. فيما مؤلفاته الفكرية العملاقة لم تكن بمجال الرواية قبل ذلك .. برأيكم كيف قلب المبخوت هذه المعادلة؟
- ربّما كان لكل جنس من أجناس التعبير أجل. فالانصراف إلى البحث الأكاديميّ والتخصّص يتطلّب زمناً طويلاً في التكوين والتدرّب والتعمّق وتملّك أدوات العمل، وهو ما خصّصت له وقتاً طويلاً فأينع وأثمر. الكتابة الأكاديميّة جهد وكدّ وكسب يكون بالمطاولة والإصرار على الاطّلاع، والسعي إلى الإضافة قدر الجهد والطاقة. بيد أن هذا لا يعني أنّ الكتابة السرديّة لمعة أو شرارة لا نعرف كيف تنقدح ولا متى، فهي أيضاً تتطلّب المواظبة والمداومة في مدرسة الرواية. المشكلة أن هذه المدرسة لا ينتسب إليها المرء بقرار عقليّ واع تمام الوعي فتؤتي أكلها متى شئنا. فلا أحد يعلّمك كيف تكتب رواية أو تصنع عالماً متخيّلاً رغم كثرة ما يسمّى بورشات التدريب والكتب المخصّصة لتعليم الناس الكتابة السرديّة وغير السرديّة.
إذن فسؤالك عن انقلاب المعادلة يقع في حيّز دقيق بين الخبرة التي تكتسب بمداومة الاطلاع على النماذج الكبرى في السرد واستبطان قواعد الجنس الروائيّ على نحو غير صريح مثلما يتعلّم المرء قواعد اللغة ضمنيّاً بممارستها وبين المعرفة الواعية التي يحاول بعض النقّاد والمهتمّين بعالم السرد تقنينها ولو في حدّ أدنى. أنا لست ممن يقولون بالإلهام وإن كنت أعتقد أنّه توجد أشكال من الوعي غير الصريح قد نسميها إلهاماً، ولست ممن يؤمنون بأنّ دخول عالم الرواية يأتي بقرار واع. ما وقع بالنسبة إليّ هو شيء شبيه بالشعور بضيق أجناس القول التي مارستها طيلة عقود (كالبحث والمقال والخاطرة...) عن قول ما أردت قوله. وما أردت قوله بسيط وخطير: لماذا وصلت بلادي إلى ما وصلت إليه من هيمنة الخارجين من غياهب التاريخ والوعي الحديث باسم الهويّة والدين هيمنة كانت تهدّد أفق الحريّة الذي انفتح فجأة، ثمّ سرعان ما تلبّد بغيوم ما يسمّى «الإسلام السياسي» البائس لينذر بشتاء قارس قاس. والطلياني كانت سعياً بوجه من الوجوه للإجابة عن مثل هذا السؤال الممض الخانق في فترة تحوّل مذهل مدوّخ. فالرواية عندي أقدر جنس على تتبع التحوّلات والانقلابات في النفوس وفي الواقع بكل تعقيداته. لكن ما إن اكتملت الرواية الأولى حتّى صارت فتنة الرواية وإنشاء العوالم المتخيّلة هي التي تقودني إلى فتح ملفّ جديد على الحاسوب أشكّل فيه أسئلتي وحيرتي وأتلهّى بصناعة الشخصيّات وإدارة الصراعات بينها وتتبع تفاصيلها. فالفنّ الروائي شرك حقيقي لا نفلت منه إذا اقتربنا منه. وما سمّيته انقلاباً لم يكن كذلك بالمعنى الدقيق بل ظللت أمارس أصنافاً مختلفة من الكتابة الأكاديميّة والروائيّة والثقافيّة؛ لأن كلّ صنف منها يلبّي حاجة فكريّة فيّ ويدفعني إلى صياغة سؤال واحد ربّما أصرفها فيها على وجوه مختلفة. فهو تقلّب الحائر أكثر منه انقلاباً في أنماط الكتابة.
2 - «الطلياني» الرواية التي تحلّت من وجهة نظري بالصبر السردي لدى كاتبها؛ حيث إنها قرأت المشهد العربي وما هو بحاجته ليتجاوز صراعاته، ثم تخصصت في قراءة حياتية دينية سياسية تونسية خاصة مرتبطة بتاريخ الانقلاب في تونس.. فما هو السلوك الذي تمنى المبخوت منحه لبطله التنويري وتردد عنه؟!
- أحبّ من موقعي كاتباً روائياً أن أقلب سؤالك. ما السلوك الذي كان يفرضه منطق بناء الشخصيّات الرئيسية (خصوصاً عبد الناصر الطلياني) وصراعاتها التي تتبّعها السرد تصريحاً وتلميحاً ولم أكتبه؟ عليّ أن أعترف لك بأنّ شخصيّة عبد الناصر الطلياني مركّبة ولها وجوه متناقضة أحياناً ومتردّدة مثل أيّ إنسان نصفه بالعمق أو انعدام السطحيّة. من هذه الناحية هو حمال لممكنات واحتمالات كثيرة ويقبل من الأدوار نبيلها ومرذولها الكثير ليكشف عما يتجاوزه فرداً في مجتمع من تناقضات وميول ونزعات تبدو منحرفة أحياناً ولكنها تقول أعماق الإنسان. إذا كان ما وصفته لك سليماً ولو نسبياً فإنّ زمن الكتابة فرض الانتقاء وتحديد وجهات في السرد وشدّته إمكانات دون أخرى. فلا ننسى أنّ الأهمّ من صنع الشخصيّة الروائيّة هو تناسقها في تناقضاتها وتكاملها في تعدّد أبعادها.
على كل حال تركنا الطلياني في الجزء الأوّل في حدود الثلاثين من العمر وانتقلنا به في الجزء الثاني «مرآة الخاسر» إلى حياته بين الثلاثين والأربعين ليكون نموذجاً وشاهداً على تحوّلات الزمن التونسي وزمن جيله. فحتّى إذا فاتت أدوار تنويريّة أو غيرها فالمجال لا يزال مفتوحاً، لأنّ الشخصيّة تحمل بذور تطوّرها في تفاعلها مع واقعها التونسي.
3 - قد يقول قائل عن «الطلياني» إن سبب انتشارها الواسع وانتقالها من لغة إلى أخرى هو موضوعها الحسّاس وتوقيتها الأكثر حساسية المصاحب للربيع العربي - كما سمّته السياسة - وسؤالي: ما الذي كان يتوقعه المبخوت لروايته هذه لو أنها نشرت في زمن مختلف ، زمن الاستقرار العربي ، والتعافي الجماهيري والسياسي؟
- ليست «الطلياني» رواية عن الربيع العربيّ وإن كانت لها به صلة. هي رواية عن تحوّلات تونس المعاصرة كما عايشتها في ثمانينات القرن الماضي. فقيمتها في تقديري لا تكمن في تزامن صدورها مع مرحلة «الربيع العربيّ» إلا جزئيّاً. وللمسألة وجهان إذا أردنا إحكام الربط بين عالم الرواية وزمن كتابتها ونشرها. أوّلهما تأويلي قرائي إن جاز التعبير يتحمّل مسؤوليّته القارئ وإن كنت لا أتنصل منه تماماً. فالأرجح أنّ الطلياني بيّنت أنّ ما وقع في تونس منذ 2011 ليس صدفة تاريخيّة بل له في العقود الثلاثة السابقة على الأقلّ جذور وإرهاصات في صراعات مجتمعيّة وثقافيّة لم تحسم في زمنها، فعادت بعد 2011 كأقوى ما يكون لتضيّع على التونسيّين فرصة للسير قدماً في مسالك التحديث والحرية والتنوير. وثانيهما يتعلق بإنتاج الرواية نفسها وكنت قد أشرت إليه. فهي في منطلق كتابتها محاولة حفر في الماضي القريب لفهم ما وقع في 2011، لذلك لم يكن السرد سرداً لحكاية قد تكون ممتعة بل كان سرداً تامّليّاً يحمل معارف اجتماعيّة ونفسية وأنتروبولوجيّة وغيرها أعانت المؤلّف على فهم جوانب من حيرته بعد الثورة التونسيّة المختطفة من «الإسلام السياسيّ» وقد تكون منطلق القارئ في تأويله لها على ما ذكرت في الوجه الأوّل.
4 - «مرآة الخاسر» تكاد تكون شفاعة سردية لما لم يستطع «الطلياني» إتمامه في أحداثه أو هكذا أصوره وفق أدواتي القرائية المتواضعة .. فهل جاء هذا النص كجزء ثانٍ غير مصرّح به؟ أم جاء كخيطٍ سرديٍ لرتق حقبة التاريخ التونسي الذي لم يستوفه مبخوت في سابقتها؟
- كلا الوجهين في قراءتك جائز. فرواية «مرآة الخاسر» جزء ثان وإن كان مستقلاً عن الطلياني على ما يقتضيه البناء من تغييب شخصيّات وإحضار أخرى وتغييرات في الأمكنة والأزمنة وفضاءات الأحداث. فعنوان الرواية الفرعي «خيبة عبد الناصر الثانية» في انتظار خيبات أخرى ربّما إذا سمح الوقت والجهد بمواصلة اللعبة. وفي هذا الجزء نرى الطلياني في صورة أخرى لا تناقض تماماً الأولى ولكنّها تركّز أكثر على عمقه النفسي ومركّباته النفسيّة وتاريخ جسده وانعكاساته على نفسيّته. لذلك قد يبدو الطلياني سلبياً أكثر في هذا الجزء إمعاناً في كشف وجوه أخرى كانت خافية في الجزء الأوّل وتعميقاً لأزمته و»مأساته» الفرديّة التي توازي مأساة مجتمع ونظام حكم انغلق على نفسه أكثر في التسعينات من القرن المنقضي. فالرواية إلى ذلك مواصلة لمسح تاريخي لا يظهر إلا بمقدار عن بلد انتقل من استبداد حكم زعيم الاستقلال إلى انفراج مشوب بشكوك مع حكم بن عليّ أواخر الثمانينات، إلى انحصار الأمل وعودة هواجس الضغط والقهر في التسعينات.
فالخيوط السرديّة في «مرآة الخاسر» تتضافر وتنمو على خلفيّة تاريخيّة وسياسيّة واضحة تسير كلّها في اتجاه الخيبة الفرديّة لعبد الناصر والخيبة الجماعيّة في استيلاء اليأس والخوف بعد أمل ضعيف محفوف بالهواجس.
5 - بما أن «الطلياني» رواية فائزة وإبداعية بشهادة ما حققته كان المتوقع أن يجيء ما بعدها عنواناً مسانداً ومؤكداً كـ «مرآة رابحة» بدلاً عن «مرآة خاسرة»، فهل يمكننا الآن استدراج ذاكرة المؤلف ومحاكمتها بعد هذه السنوات من النشر علّها تصرّح أو تعرّج على ما طُبِع بالورق وانطبع بالذهن؟
- الرواية تكتب الخسارات والخيبات لا الربح والفوز في تقديري وهي الوظيفة النقديّة للسرد عامّة. سؤالي دائماً كان الحريّة والحريّة الفرديّة تحديداً. ولست ملتزماً بشيء غير هذا. فالإيديولوجيات كما ترى تتغيّر وتتقلّب ويعلو صوتها ثم تخفت وتدخل في بورصة المزايدات ومعارك السلطة والجاه، لكن الفرد عندي قيمة ثابتة يجب أن تصان كرامته وأن تفتح له أبواب الشوق إلى حياة جديدة أثرى وأعمق. وما طبع على الورق كما قلت هو بيان في الحقيقة للمفارقة الخانقة التي تقوم على جعل من ليس حرّاً يدافع عن الحريّة. فهل تصنع الحريّة بأفراد ليسوا أحراراً؟ لا أدري لكن ما أنا متأكد منه هو أن الصراع جدير بأن يخاض مهما كانت سلبياته ونقائصه. وما انطبع بالذهن، وعبارتاك جميلتان، أنّ التونسي، حتى أتحدّث عمّا أعرف ولا أزعم أنّني أسحب كلامي على الإنسان مجرّداً، محاصر بشبكة من الممنوعات المخصوصة تتكاثر كلّما سار خطوة في أفق حرّيته. فلا مناص إذن من استمرار الصراع بصور وأشكال مختلفة إذا كان فعلاً يريد الحياة كما قال شاعره الشابي في بيته الشهير ووعي بحريّته وكرامته كما زعم في الشعارات التي رفعها سنة 2011، ثم وجد نفسه في بؤس معمّم وخيانات تكاثرت عليه واختطاف لأحلامه. كل هذا تحاول الرواية أن تقوله ولو مداورة.
6 - «الرئيس الراحل بورقيبة أعطى النساء أكثر مما أعطى الرجال» هل هذا الجزء الرمزي هو ما أرادت قوله بعضاً من أعمال مبخوت السردية ؟ وهل هكذا أراد أن يستدرج السياسة والمجتمع والدين والحب لمخيلة سردية واحدة تعيدنا لواقعٍ تونسيٍ جميلٍ ، وصامدٍ، ومتعافٍ رغم كل شيء؟!.
- هذا ما قالته إحدى الشخصيّات في الرواية وليس موقف المؤلّف. ما يبرز في الرواية هو على العكس من ذلك ولكن دون شعارات سياسيّة. فنحن أمام كوكبة من الشخصيّات النسائيّة بالخصوص، أي بنات بورقيبة تحديداً، يسرن في مسالك بكر بحثاً عن حريتهنّ. ولكن سطح النصّ مليء بالنزعة الذكوريّة ضدّهنّ وبالعنف والمواقف المسبقة، في حين أنّ من يتأمّل سلوكهن ويتثبّت في تجاربهنّ يجد مسارات فرديّة متناقضة متقلّبة متعثّرة في طريق الحريّة. من هذه الناحية ليس للمرأة في تونس، عكس الوهم الشائع من الحقوق ما يفوق الرجال. وشخصيّاً لا أرى الواقع التونسي جميلاً حقاً متعافياً فعلاً صامداً على الحقيقة لا المجاز إلا بمطلق المساواة بين رجاله ونسائه. هذا عندي موقف أخلاقيّ قبل كل شيء ورغم كل شيء.
7 - ولد شكري المبخوت في حي عريق من أحياء تونسه الخضراء وتصاعد اهتمامه بالأدب منذ نشأته الشبابية ومرحلته الجامعية .. فهل حدث للمبخوت أن أودع في أحد أعماله شيئاً من سيرته وهو الذي دوّن عن طه حسين معتبراً أيامه مجرد وثيقة لا سيرة، وكذلك كتب عن تونس وأبطالها في سير ذاتية؟! فهل يمكننا التنبؤ بما هو آت من سيرة «مبخوتية» ذاتية ذات حين؟
- توهّم كثيرون في بداية صدور العمل أن الرواية سيرة ذاتيّة أو على الأقلّ رواية سيرة ذاتيّة. وهذا طبعاً مناف للواقع ولم يكن ثمة ما يمنعني من التصريح بالجانب السيرذاتي فيها لو كان حقاً سيرة ذاتيّة لذلك حتّى أجد مع قرّائي مجال اتفاق تحدّثت في إحدى الحوارات عن أنّها تروي سيرة جيل. لكن بالمقابل في هذه الرواية جوانب شخصيّة. فلا أعتقد أنه يوجد كاتب روائيّ لا يوظّف بعض تجاربه وذكرياته ومعايشاته في نصّه. لكن هذا الجانب الشخصيّ لا يوجد حيث يعتقد القرّاء على سبيل التقريب أنّه ذاتي شخصيّ. مثلاً في مواقف زينة المختلفة وآرائها ومطالعاتها الكثير منّي دون أن أبلغ قول الآخر (فلوبير) «مدام بوفاري هي أنا». ورغم ذلك ففي سلوك القرّاء مع الرواية وبحثهم عن مطابقة بين الشخصيّة الرئيسيّة والمؤلّف ما يؤكّد عندي أنهم وجدوا فيها من التماسك والثراء ما دفعهم إلى مثل هذا البحث.
الرواية كما قال أحد الروائيين الكبار الذي غاب عني اسمه الآن هي على نقيض التعرّي («الستريب تيز» الذي قد نصف به السيرة الذاتيّة خصوصاً إذا كان البوح فيها بالمخازي والمعايب قويّاً)، إنّها تغطية مستمرّة لعُرينا من باب مخادعة القارئ على الأرجح وإثراء للشخصيّة الروائيّة حتى تكون أبلغ بمعنى أنفذ إلى القلوب.