من منظور نظريّة الاتصال الأدبي (النقديّة)، يعتبر الارتداد العكسي آخر آليّة من آليّات معالجة النّص، ويقصد بها رد فعل النّص على وعي القرّاء والمتلقّين له، وهو النّص الذي ينتجه القارئ، أو المتلقّي للنّص، بناء على وعيه وخلفيته المعرفيّة والثقافيّة والفكريّة والفلسفيةّ، وذلك عندما يقرأ نصًّا أدبيًّا بعينه، وينتج بعد القراءة نصًّا آخر نتيجة تأثّره بالنّص المقروء، ففي هذه المرحلة يتحوّل القارئ أو المتلقّي مبدعًا نصًّا جديدًا، وقد يكون هذا النّص الجديد عكسيًّا أو توافقيًّا مع النّص الذي قرأه أوّلاً، ومهما يكن من أمر، فإنّ النّص الجديد لا يعدو أن يكون نصًّا ارتداديًّا عكسيًّا؛ إذ إنّه جاء ردّ فعْلٍ على نصٍّ مقروء(1).
وينقسم الارتداد العكسي إلى قسمين: أحدهما ارتداد عكسي مباشر، وذلك حينما يكون النّص نصًّا يقوم على الإبانة والإفصاح والوضوح، وحينئذٍ يتشكّل نصٌّ عكسي مباشر. وغالبًا ما تكون في النّصوص ذات (البنية السطحيّة المباشرة) كالخطب مثلاً. والآخر ارتداد عكسي غير مباشر «فينتج عندما يتأثر القارئ أو المتلقي بنص أدبي ثري ومتعدد الدلالات»(2)؛ نظرًا لما يحمله من بنية عميقة، ودلالات موحية.
وغالبًا ما تكون الارتدادات العكسيّة دراسة نقديّة تثري النّص، وتتجاوز به حدود بنيته السطحيّة، ومن أمثلة ذلك دراسة محمد نجيب العمامي «مقاربة النص السردي التخييلي من وجهة تداولية: المقامة البغدادية للهمذاني أنموذجًا»، التي صدرت ضمن كتاب العمامي «بحوث في السرد العربي، مكتبة علاء الدين، تونس، 2005م»، ولهذا سنقف على هذه الدراسة، بوصفها ارتدادًا عكسيًّا غير مباشر.
يبدأ العمامي مقاربته التداوليّة بالوقوف عند عتبة العنوان في المقامة، معتبرًا العنوان مركّبًا نعتيًّا طرفه الأوّل يحيل إلى جنس أدبي يخضع لقواعد وإكراهات بنائيّة مخصوصة، لكونه جزءًا من موسوعة القارئ المتعاون.
أمّا الطرف الثاني فيحيل إلى مكان يرجِّح القارئ، اعتمادًا على كفاءته الموسوعيّة، وتحديدًا على معرفته بمقامات الهمذاني الأخرى، أنّه مكان الأحداث المرويّة.
فبين مقامة الهمذاني وقارئها عقد قراءة، تكوِّن خصائص الجنس بنودَه الكبرى، على اعتبار أنّ القارئ -غالبًا- ما ينتظر تحقُّق ما توقّع في مستوى مكوّني العنوان، ومستوى البنى الملزمة؛ لأنّ القارئ متلفِّظ مشارك ماثل في خطاب المؤلِّف، والنّص منتوج يجب أن ينتمي مصيره التأويلي إلى آليّته التكوينيّة الخاصّة، ومن هذا المنظور فالمؤلِّف والقارئ إستراتيجيّتان نصّيتان وليسا كائنين تجريبيّين.
يتلمّس العمامي الكثير من الجوانب المسكوت عنها في متن المقامة، محاولاً تنشيط التّراكيب من خلال توليد الأسئلة وعرض سيناريوهاتها، فمع نمو الحكاية ينمو التحليل لدى العمامي، فيتأمّل قصة عيسى بن هشام مع السّوادي، وفق لباس تُحاك فيه خيوط الحكاية شيئًا فشيئًا، ويبدو فيه الخطاب متّسقًا متماسكًا.
وبما أنّ من مقتضيات التّواصل أنّ إنجاز أي عمل لغوي مرتهن باجتماع شروط نجاحه، فإنّ العمامي يبني على هذا المقتضى التّداولي تأويلات مناسبة يستخلصها من النّص، مؤكّدًا أنّ القارئ أيًّا كان مكانه وزمانه عنصر مهم من العناصر التكوينيّة للمقامة.
ومع أنّ تحليل العمامي التداولي قد أثبت أهميّته بالنظر إلى النّص الأدبي، بوصفه فعلاً تواصليًّا، وبرهن على قيمة السّياق في تأويل الكلام، فإنّه كشف في الوقت نفسه عن الحاجة في تحليل هذا النّص، بالذات، إلى مزجه بالمنهج الإنشائي؛ لأنّ السّياق لا يمكن أن ينفصل عن الخصائص البنائيّة للخطاب.
وتؤكّد دراسة العمامي أنّ الهمذاني استخدم الشّكل الموروث استخدامًا جديدًا، وقد يكون مبتدع المقامة، إلاّ أنّه لم ينشئها من عدم، ففي شكلها ممّا شاع في عصر الكتابة من أجناس وأصداء، وفي مضمونها شبه بما حفلت به كتب الأدب من أخبار الشطّار والمتسوّلين، وفيها من العصر الذي أنتجت فيه سمات وملامح.
ويشير إلى أنّ المقامة البغداديّة تَنْشدُّ إلى سائر المقامات بأكثر من آصرة، وهذا يحملنا على القول: إنّ الهمذاني لا يصوّر واقعًا؛ بل يُنتج المختلف داخل المؤتلف، أو ينوّع داخل المنوال الواحد. وأيًّا يكن العمل اللّغوي الشّامل في هذه المقامة، فإنّ عسر تحديده واختلاف القرّاء على مرّ العصور حول مقاصد تأليف المقامات، وما في النّص من ثغرات تؤكّد أنّ القارئ، أيًّا كان مكانه وزمانه، عنصر من العناصر التكوينيّة للمقامة.
والمُلاحظ أنّ التحليل التداولي الذي اشتغل عليه العمامي له أهميّة في النظر إلى النّص الأدبي، باعتباره فعلاً تواصليًّا، وله أهميّة في تأويل الكلام، كما يُسهم في تحرُّر القراءة من سلطة النّص المطلقة، ويخلق حوارًا حقيقيًّا بين الذّات المنشئة، والذّات القارئة؛ ولكنّه في المقابل، أهمل دراسة الخصائص الدلاليّة لنصّ المقامة البغداديّة، كما أنّه اهتمّ بمقاصد القول، وأغفل طرائق القول.
كما أنّ المنهج التداولي لا يفي بتحليل خصائص النّص وبواعثه، كما هو الحال من منظور نظريّة الاتصال الأدبي، التي استطاعت -بفضل معطياتها وآليّاتها- أنْ تقدّم قراءة أخرى أحاطت بجوانب النّص؛ بدءًا من الرؤية التكوينيّة للمبدع، مرورًا بالخاصيّة النصيّة، ثمّ الوسيلة التواصليّة؛ ودور القارئ في استكشاف المعنى، وملء الفراغات، وربط الأجزاء غير المترابطة؛ فضلاً عن أنّها كشفت لنا أبعاد إستراتيجيّة القراءة، وما يتبعها من البعد الذّاتي، والباطني، والوظيفي، والصّوري، والجدلي، دون أن تهمل النظريّة إستراتيجيّة الاتصال، التي بدورها كشفت عن الاتصال المتعادل والمنحرف، ثمّ اكتمل عقد النظريّة بالارتداد العكسي سواء كان مباشرًا أو غير مباشر.
... ... ... ... ...
هوامش:
- ينظر: مراد مبروك، ورضوان عبدالله، ومنصور ضباب، نظرية الاتصال الأدبي بين التنظير والتطبيق، جامعة الملك عبدالعزيز، مركز النشر العلمي، 1434هـ، ص208.
- المرجع السابق، نفس الصفحة.
** **
- د. ساري بن محمد الزهراني