هذه التسمية لعبد القاهر الجرجاني (ت366) الذي أفرد لها فقرة تحت هذا العنوان في كتابه (الوساطة بين المتنبي وخصومه ص188). يقول: «وقد يتفاضل متنازعو هذه المعاني بحسب مراتبهم من العلم بصنعة الشعر، فتشترك الجماعة في الشيء المتداول، وينفرد أحدهم بلفظة تستعذب، أو ترتيب يستحسن، أو تأكيد يوضع موضعه، أو زيادة اهتدى إليها دون غيره، فيريك المشترك المبتذل في صورة المبتدع المخترع». [186]
وهو يعد هذا التصرف حسنة لصاحبه وميزة تفضله. فيقول: «ومتى جاءت السرقة هذا المجيء لم تعد من المعايب، ولم تحص في جملة المثالب، وكان صاحبها بالتفضيل أحق، وبالمدح والتزكية أولى». [188]
وفي الوقت نفسه بحذر من التفريط بالتجاوز عن السارق إذا لم نره أخذ من غيره الألفاظ نفسها والمعاني عينها، فيقول: «فلا تكن كمن يرى السرق لا يتم إلا باجتماع اللفظ والمعنى، ونقل البيت جملة والمصراع تاما». [ص192]
ويسوِّغ لاضطرار الشعراء إلى استعارة معاني نظرائهم؛ بأن السابقين لم يتركوا للتالين جديدا يقولونه: «ومتى أنصفت علمت أن أهل عصرنا، ثم العصر الذي بعدنا أقرب فيه إلى المعذرة، وأبعد من المذمة؛ لأن من تقدمنا قد استغرق المعاني وسبق إليها، وأتى على معظمها؛ وإنما يحصل على بقايا: إما أن تكون تركت رغبة عنها، واستهانة بها، أو لبعد مطلبها، واعتياص مرامها، وتعذر الوصول إليها؛ ومتى أجهد أحدنا نفسه، وأعمل فكره، وأتعب خاطره وذهنه في تحصيل معنى يظنه غريبا مبتدعا، ونَظْمِ بيت يحسبه فردا مخترعا، ثم تصفّح الدواوين لم يخطئه أن يجده بعينه، أو يجد له مثالا يغض من حسنه؛ ولهذا السبب أحظر على نفسي، ولا أرى لغيري بتَّ الحكم على شاعر بالسرقة.. إلا أني إذا وجدت في شعره معاني كثيرة أجدها لغيره حكمت بأن فيها مأخوذا لا أثبته بعينه، ومسروقا لا يتميز لي من غيره، وإنما أقول: قال فلان كذا وقد سبقه إليه فلان فقال كذا، فأغتنم به فضيلة الصدق، وأسلم من اقتحام التهور». [214-215]
ويقول الشريف المرتضى (355-436): «ليس ينبغي لأحد أن يقدم على أن يقول أخذ فلان الشاعر هذا المعنى من فلان، وإن كان أحدهما متقدما والآخر متأخرا، لأنهما ربما تواردا من غير قصد ولا وقوف من أحدهما على ما تقدمه الآخر إليه، وإنما الإنصاف أن يقال هذا المعنى نظير هذا المعنى ويشبهه ويوافقه، فأما أخذه وسرقه فمما لا سبيل إلى العلم به، لأنهما قد يتواردان على ما ذكرناه، ولم يسمع أحدهما بكلام الآخر، وربما سمعه فنسيه وذهب عنه ثم اتفق له مثله من غير قصد». [الشهاب ص7]
وهذا بعينه هو ما رآه القاضي الجرجاني، لكننا بناء على رأييهما لا نجزم أن الشريف أخذه من الجرجاني!.
وتطبيقا لمنهجه ضرب الجرجاني أمثلة كثيرة لما أخذه الشعراء من بعضهم دون تعليق منه. ومن هذه الأمثلة شطر البيت المشهور:
العبد يقرع بالعصا
فقد أورد ثلاثة أبيات لثلاثة من الشعراء كلهم اتفقوا في الشطر الأول. الأول لمالك بن الريب:
العبد يقرع بالعصا والحر يكفيه الوعيد
والثاني ليزيد بن مفرغ:
العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الملامة
والثالث لآخر لم يسمه، لكنه نص على أنه بعدهما:
العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة [الوساطة 196]
قال د. عبدالقدوس أبو صالح؛ محقق ديوان يزيد بن مفرغ في تخريجه لبيته السابق [ص215- 217]: «هذا البيت سائر مشهور، فقد ورد صدره لدى عدد من الشعراء، وذهب الجاحظ في البيان والتبيين إلى أن ابن مفرغ أخذه عن الصلتان الفهمي، الذي يقول:
العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه الإشارة
بينما ذهب الجرجاني في الوساطة إلى أن هذا البيت -ولم ينسبه لقائل- متأخر عن ابن مفرغ.
أما ابن قتيبة فقد ذهب في الشعر والشعراء إلى أنه أخذه عن مالك بن الريب حيث يقول:
العبد يقرع بالعصا والحر يكفيه الوعيد [الشعر والشعراء 1/384]
والحقيقة أن الشعراء الثلاثة كانوا في عصر واحد، مع تأخر الصلتان الذي أدرك جريرا والفرزدق وحكم بينهما. والمرجح أن الشعراء الثلاثة أخذوا عن بيت لشاعر جاهلي قديم هو أبو دؤاد، قاله يعاتب فيه امرأته لسماحها بماله، وذلك قوله:
العبد يقرع بالعصا والحر تكفيه المقالة
وقد أورد الجاحظ بيت أبي دؤاد دون عزو، وحقق نسبته بعض المحققين المعاصرين. [البيان والتبيين 3/ 37]
وجاء في المختار من شعر بشار، أن بشّارا أخذ قوله في أرجوزته:
الحر يلحى والعصا للعبدِ
من بيت ابن مفرغ، ثم أخذه ابن دريد من بشار، فقال:
واللوم للحر مقيم رادع
والعبد لا يردعه إلا العصا
ثم استعمله أبو الطيب في داليته في هجاء كافور. يعني قوله:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه
إن العبيد لأنجاس مناكيد
* * *
- سعد عبد الله الغريبي