ثقافتنا العربية وتحديدًا منها الشعر، تتسم بالغنى الشخصي إلى جانب الموضوعي. فرمزية الشعر وأعني بهذه اللفظة التوصيف لا الأدوات الشعرية، لم تكن حكرًا على امرئ القيس أو الكميت أو الفرزدق أو أبو العتاهية أو المتنبي.
وإنما قد كانت هناك أيقونات بشرية أخرى، تملك من الموهبة الشعرية الحقة الشيء الكثير. بيد أن من تناولوا عملية الرصد التاريخي، قد كان لذائقتهم الأدبية الخاصة الدور الأكبر في الحيلولة -اللاقصدية- دون أن تعطى لهذه العلامات الشعرية حقها من المكانة الأدبية والتقدير الشعري.
يحضرني في هذا المقام الشاعر علي بن الحسن البغدادي، الشهير بلقبه «صُرْ دُرْ» الذي افاضه عليه الوزير الأديب قوام الدين الطوسي الشهير في زمن السلاجقة بلقب نظام الملك. وصف شعره الذهبي فقال: لم يكن في المتأخرين أرق طبعاً منه، مع جزالة وبلاغة.
ولنتأمل نشيده التالي حين يصف الجمال الحوائِّي الذي اتسمت به أرض نجد، فيصف حواء بتلك الأنوثة والسلطة الحضورية الطاغية التي تأخذ بالعقول قبل الألباب:
النجاءَ النجاءَ من أرضِ نجدِ
قبلَ أن يعلَق الفؤادُ بوجدِ
إنّ ذاك الثرى لَيُنبتُ شوقا
في حشَا ميِّت اللُّباناتِ صَلدِ
كم خلٍّى غدا إليه وأمسَى
وهو يَهذِى بعلَوةٍ أو بهندِ
وظباءٍ فيه تُلاقِى المُوالى
والمعُادى من الجَمال بجنُدِ
بشتيتٍ من المباسم يُغرى
وسَقامٍ من المحاجر يُعدى
وبنانٍ لولا اللطافةُ ظُنَّتْ
لجِناياتها براثنَ أُسْدِ
ومن هنا ففي تقديري بأن ابن خلكان لم يجانبه الصواب في «وفياته»، حين وصفه بأنه يعد «أحد نُجباء شعراء عصره، جمع بين جودة السبك وحسن المعنى، وعلى شعره طلاوة رائقة وبهجة فائقة».
وأجدني أقول:
وكيف لا يا ابن خلكان وهو القائل:
من علَّم القلبَ ما يُملى من الغَزَلِ
نوحُ الحمام له أَمْ حَنَّةُ الإبلِ
لا بل هو الشوقُ يدعو في جوانحنا
فيستجيبُ جَنانُ الحازم البطلِ
لكلِّ داء نِطاسىٌ يلاطفهُ
فهل شفاك طبيبُ اللوم والعذلِ
وبالعودة لما قاله ابن خلكان عن شاعرنا صر در، والعمل على رصد الأبعاد الدلالية العميقة لعباراته، فسنجد بأنه قد قال بالدقة: «بهجة فائقة»، وهنا لي وقفة. إذ إن من وظائف الشعر أن يعمل على توليد أثر فاعل لدى المتلقي. أي أن المفردة الشعرية ينبغي أن يتم تحميلها مؤثر سيكولوجي لتنتظم مع غيرها من المفردات لتشكل لنا عبارة متكاملة تحوي صورة شعرية تستطيع أن تدلف لقلب المتلقي وأن تحدث لديه ردة فعل نفسية قد تصل في بعض الأحيان للبكاء أو الشعور بالبهجة أو حتى الحماسة، وفقًا للبعد الغرضي -القصدي- للشاعر وتحقيقًا للهدف التعبيري الذي يولده الشعر ككينونة قد استقلت بذاتها عن قائل النص.
هذا الأمر أجده قد تحقق بشكل إجرائي في شعر صُرَّ دُرْ، ولنتأمل جملة التوالي الصوري التي قد عمد لتوليدها في بنيته الشعرية التالية:
لو ثبتَ السهمُ الذي أرسلتِه
في القلبِ وافقتُكِ لكن قد مرَقْ
جمعتم السرَّاءَ والضرّاءَ لي
فأنتمُ كالماءِ رَىٌّ وشَرَقْ
كان اتفاقا ولَعى بِسربكم
وشرُّ أحداثِ الليالي ما اتفقْ
لم أدرِ أنّ من حُداة ظُعْنِكم
أو سائقيهنّ غرابا قد نغقْ
وأذكر فيما مضى أنه قد استوقفني من البيت الأخير قول صر در: «غرابا قد نغق»، ولم يقل «غرابًا قد نعقْ». وبالعودة لأدبيات المعجم اللغوي العربي، فسنجد أن اللحياني قد قال عن ذلك: «ونَعَقَ الغرابُ نَعِيقاً ونُعاقاً؛ والغين في الغرابُ أَحسن». في حين قال الأَزهري: «نَعَق الغرابُ ونَغَقَ، بالعين والغين».
ختامًا، رحم الله شاعرنا أبو منصور البغدادي «صر در»، الذي كانت حتى وفاته تبدو للمراقب وكأنها لوحة فانتازية أخرى، وهي تلك الميتة الغرائبية التي قال عنها الزركلي «تقنطر به فرسه، فهلك، بقرب خراسان». وقد اختلفت في تاريخ وفاته المؤرخون، كما اختلف على شعره محبوه ومبغضوه، فقيل كانت وفاته في شهر صفر، وقيل في شهر ربيع الأول سنة 465 هـ، وقد تجاوز الستين.
** **
- د. حسن مشهور