عطية محمد عطية عقيلان
عُرض في نهاية عام 2021م، فيلم Don›t look up يتحدث عن اكتشاف عالِم فلك وتلميذته وجود مذنب سيضرب الكرة الأرضية خلال ستة أشهر، وحاولوا أن ينبهوا المسؤولين به واجتمعوا مع أعلى السلطات لبيان الخطر القادم على الكرة الأرضية، ولكن تم اتخاذ موقف مغاير منهم، وإنكار هذه الحقيقة العلمية، وتم توجيه الرأي العام ووسائل التواصل الاجتماعي كافة لإقناع العامة بعدم صحة ادعائهم، وأن الحقيقة العلمية التي يروِّج لها عالم الفلك غير حقيقية، بل تثير رعب الناس دون مبرر وذلك استدعى مهاجمتهم، حتى من الناس العاديين في الشارع متأثرين بما تم الترويج له في مختلف منصات الإعلام الذي ينكر أي خطر قادم.
هذا يذكر بمصطلح «ما بعد الحقيقة»، والذي أول من استخدمه الصحفي الأمريكي في مجلة ذ نايشن «ستيف تشيس» عام 1992م، وأصبح يلاقي رواجا في أوساط السياسيين والإعلاميين، ويعني مصطلح « ما بعد الحقيقة « التوجه في النقاش وطرح الأفكار بالاعتماد على الانفعالات الفردية واللعب على وتر الغرائز والمشاعر والمعتقدات الخاصة لأفراد المجتمع المراد التأثير عليه وتوجيهه لأخذ الموقف المستهدف، بغض النظر عن الحقيقة وإن كان يراها بعينيه، ولكن يتم تضليلهم بالكذب المتعمد والمستمر والمكرر والمكثف عبر مختلف طرق التأثير الإعلامية والشخصية المتاحة، وهذا يحول الحقائق إلى أمور ثانوية وغير مؤثرة ومهمة في القرار والرأي الذي اتُخذ، لأن الرأي العام تبنَّى المعلومة المطلوب منهم تصديقها، فلم يعد يرى الحقيقة المثبتة والماثلة أمامه، وهذا ما يتحدث عنه الفيلم «لا تنظر إلى الأعلى»، وكيف تم تحويل الرأي العام بعدم تصديق ما يقوله عالم الفلك، علماً أن الحقيقية موجودة أمامهم فقط تتطلب النظر إلى الأعلى لمشاهدة المذنب الذي يقترب من الأرض، بل على العكس تبنَّى العوام نبذهم وتكذيبهم ومهاجمتهم، بل حتى رفض النظر إلى الأعلى، وانتشار حملة «انظر إلى الأسفل» تأكيدا على عدم تصديقهم، ويتضح ذلك جليا في اللقاءات التلفزيونية معهم، وكيف يتحول الحوار والنقاش إلى سخرية واستهزاء وضحك على ما يحذِّرون ويهوِّلون منه، مع عدم أخذهم بالجدية المطلوبة لهذا الخطر القادم.
هذا يطرح موضوعاً مهماً نواجهه في حياتنا جميعا، ولا سيما أننا نتلقى عشرات ومئات الأخبار اليومية عبر مختلف الطرق والمنصات الإعلامية، وكيف نتأثر بتصديقها أو تكذيبها، بناءً على ميولنا وقناعاتنا السابقة، بعيداً في كثير من الأحيان عن الصح والخطأ أو الحقيقة والباطل، ورأينا ذلك بوضوح في موضوع اللقاحات لكوفيد - 19، ورفض البعض أخذ اللقاح والاستدلال بالرأي الذي يخدم رأيه، ودفع أشخاص حياتهم لإنكارهم وجود الفيروس ورفضهم التطعيم، ولكن مازال هناك من يتبنى ذلك ويدافع عنه رغم الحقائق الدامغة على أرض الواقع، مؤكدا على مقولة « عنز ولو طارت «.. كما نشهد في الجانب الرياضي وعند مناقشة حدث أو موقف أو قرار أو نتيجة مباراة، وكيف يكون هناك تباين في الرأي، مع العلم أن هناك حقائق ثابتة تكون موجودة، ولكن تستخدم التضليل المتعمد وتأييد صحتها وتكذيبه بناءً على ميولنا وقناعاتنا وفائدتنا في استمالة هذا الجمهور أو ذاك، ولا سيما في وجود أحكام مسبقة وتأثر وميل لا يتأثر بالحقائق الدامغة والرأي القانوني.
الخلاصة: لي ولك عزيزي القارئ إدراكنا بأن هناك تلاعباً في الحقائق وطريقة عرضها علينا، يستوجب منا أن نزيد مناعتنا من تأثير الأخبار والمعلومات التي تصلنا، وتتطلب التمحيص والتدقيق والبحث المستفيض قبل أن يتم تصديقها، ولنحذر من المعلومات الكاذبة والمغلوطة على حياتنا وقراراتنا، وخاصة ما يمس قيمنا وأوطاننا، مع التأكيد أن هناك فعلا دخاناً بلا نار، لأن الدخان قد يكون مفتعلا لتصديق أن هناك ناراً، وكما يقول مارك توين «تجوب الكذبة نصف العالم، قبل أن تلبس الحقيقة أحذيتها».