د.محمد بن عبدالرحمن البشر
أبو الفرج منصور الثعالبي النيسابوري نسبة إلى نيسابور البلدة التي ولد بها عام 350 هجرية، وأمد الله في عمره حتى عام 429 هجرية، ألف أكثر من ثمانين كتاباً، بقي بعضها، وأخفى الزمان عنا البعض الآخر، ومن حسن الطالع أن يصل إلينا كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، لما فيه من فوائد جمة، ومعلومات قيمة عن شعراء عصره، وهو عصر مليء بالعلماء والأدباء والأحداث الجسام وهو لم يدرك المتنبي لأن المتنبي ولد عام 303 هجريه وتوفي عام 354 هجرية، لكنه كان حديث عهد بما قيل فيه وعنه، وهو من المعجبين به المحبين لشعره، لكن ذلك الحب لم يمنعه من نقده فيما يراه خطأً، وليس بالضرورة أن يكون مصيباً في نقده.
ترجمة الثعالبي موجودة في كتب التراجم، ومتاحة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن ما يمكن إضافته في هذا المقال وقفات عند نقطة أو نقطتين من بحر لجي من المعلومات التي وفرها لنا رحمه الله، وأفاد الأدباء والعلماء والنقاد منها، لا سيما أنه لم يكن ناقلاً فحسب، بل ينقد ويصوب، وهو لم يتغافل شعر المجون الذي قاله بعض الشعراء، بل ذكره كما هو، وهذه أمانة علمية أتاحت لنا التعرف على طرف من الحياة الاجتماعية لذلك العصر، وقد سار على دربه من قلده ممن جاء بعده في ذكر شعر رجالات عصرهم، ومنهم على سبيل المثال الباخرزي صاحب دمية القصر، وعشرة أهل العصر، وعماد الدين الأصفهاني في خريدة القصر، وسعد الوراق في زينة الدهر، وتقليد الثعالبي لم يكن لدى المشرقيين فحسب، بل قلده في الأندلس أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني، نسبة إلى بلدة شنترينه، ومن العجب أن تلك المدينة قد غزتها بعض القبائل المتخلفة من شمال أوروبا للنهب والسلب في فترة كان الرخاء يعم بلاد الأندلس، وسمى كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، وهو هنا يقصد الجزيرة الأيبيرية أي إسبانيا والبرتغال في عصرنا هذا، والحقيقة إنني أفدت من هذا الكتاب أي كتاب الذخيرة الشيء الكثير عند تأليفي لعدة كتب عن الأندلس، ونقلت في أحد الكتب بعضاً مما كتبه ابن بسام من القصص وفي بعض القصص شيء من المجون، ونقلتها وقد أعلق عليها ببعض العبارات، مثل والعياذ بالله، أو حمانا الله وإياكم، إلا أنني لم أنقل أي خبر أو جملة فيها مساس بالدين.
سنقف عند ملامة من ملامات الثعالبي لأبي بكر محمد بن محمد الخوارزمي في بيت شعر قاله في الوزير الصاحب بن عباد، وأنكر عليه بعض المعاني والألفاظ التي استخدمها في هذا البيت حيث قال الخوارزمي:
ومهيب كأنّما أذنب الناس
إليه فهم مغشون ذلاً
وظريف كأنّ في كلّ فعل
من أفاعيله عرائس تجلى
استخدام كلمة ظريف في البيت الثاني غير مناسبة لأن يوصف بها ذوو المكانة المرموقة، وإنما يمكن أن يوصف بها بعض المغنين والحاشية الذين يسعدون ذلك الرجل المهاب، وأنكر عليه أيضاً وصف أفاعيله بالعرائس، وقال: لو ذكر ذلك عن مخنث فما زاد، ويمكنني الإضافة إلى ما كتبه الثعالبي من نقد للخوارزمي في البيت الثاني، في طرح ملاحظات على البيت الأول، فليس من الحكمة أن يكون من صفات المهاب أن يقف الناس أمامه، كأنهم مذنبون، ومغشي عليهم من الذل، وإنما تكون المهابة في عيون الجلساء، لمن حسن خلقه، فيتطلعون إلى لقائه، ويطمعون في عطائه، داعين الله ببقائه.
قال ابن عيينة:
بنيّ إن البر شيء هيّن
وجه طليق وكلام ليّن
وفي الأثر: «مداراة الناس صدقة»، وابن الرومي أيضاً قال:
كل الخلال التي فيكم محاسنكم
تشابهت منكم الأخلاق والخلقُ
كأنكم شجر الأترج طاب معاً
حملاً ونوراً وطاب العود والورقُ
وقال سعيد بن العاص لابنه: اقتصد في مزاحك فالإفراط به يُذهب البهاء، ويجرّئ عليك، وتركه يقبض المؤانسين، ويوحشهم. وقال الشاعر:
إذا جَدَّ عندَ الجدِّ أرضاكَ جدُّهُ
وذو باطِلٍ إن شِئتَ أرضاكَ باطِلُه
وقال الآخر:
أهازل حيث الهزل يحسن بالفتى
وإني إذا جد الرجال لذو جد
ومهما قال الحكماء والشعراء والناصحون فكلٌّ ميسر لما خلق له، وكل له طباعه وأخلاقه وقيمه التي جبل عليها، واستقاها من محيطه وتجاربه.