أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبد الرحمن: صدر كتابي (الفنون الصغرى) السِّفْرُ الخامِس عام 1405 هجرياً /1985 ميلادياً في نادي الطائف الأدبي، ولا ريب أنَّ هذا السفر کالأسفار الأربعة السابقة مقالات اخترتها من جملة محاضراتي ومقالاتي خلال عشرين عاماً، ولا ريب أنها مقالات متفرقة في موضوعات شتى وإن كان أغلبها الأدب؛ فهاتان الحقيقتان جديرتان بأن تذودان ذائقة القارئ عن الاستمتاع بهذا السفر ومتابعته؛ لأن الناس سئموا من المقالات التي يعاد نشرها في كتب، ولأن المقالات الصحفية لا ينظر لها باحترام إذا قسرت لتكوين کتاب ذي عنوان موحد، وكان أعظم هجاء يوجهه إلى مشايخي أن يحكموا على آثاري بأنها (کلام جرائد)، ولأن مقالات الصحف سهلة المأخذ يطلب في عرضها المسامحة، ولأن من القراء من مرَّ بها في صحيفة ما.
قال أبو عبد الرحمن: إنْ جاز للمؤلف أنْ يجعل مقدمته ترويجاً لكتابه ولعل ذلك يجوز لقوله سبحانه وتعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}، فإنني أشترط على القارئ متابعة هذا السفر وأنا أضمن له المتعة والبراءة من عيوب المقالة لاعتبارات عدة: أولها أن تنوع المعارف في هذا السفر ضمانة للمتعة.. وثانيها أنَّ متعة التنويع لم تنغص متعة التوحيد لسبب بسيط هو أن موضوعات هذا السفر مهما تنوعت محكومة بأصول نظرية ونقدية سواء أكان ذلك في النقد والأدب أم كان في عمومات الثقافة.. خذ على سبيل المثال المقالات: الأول والآخر، كل حافظ إمام، مراتب أهل الحرف، ثقافة متزنة، بين المثقف والمختص، يوم للثقافة ويومان للتبحر والتأمل، اللذة الخالدة، العقاد کما أفهمه؛ فكل هذه المقالات المتنوعة تعمق مفهوماً موحداً عن العالِم والمفكر والمثقف في حال المقارنة بينهم، وقس على هذه الوحدة المنهجية بقية المواد.. وثالثها أني قبل أن أكتب للجريدة أبيت النية على أن المقالة ستكون مادة كتاب سأقوم بتأليفه، ولهذا أحرص على تحرير المسائل وتقويتها بالفكر أو إشباعها بالثقافة.. ورابعها أنني استبعدت من مقالاتي التي نشرتها خلال عشرين عامًا أكثرها نشرته في أسفار الفنون الصغرى، وما اخترت نشره من هذه المقالات عاودت تنقيحه وتهذيبه لرفع مستواه عن المساحة الصحفية.. وخامسها أنَّ نشر المقالات إذا كانت مسائل محررة إحياء السيرة السلف الذين يتسلون بالمقالات إذا تعبوا من متابعة العمل المتخصص ريثما تصفو قرائحهم فيعاودون نشاطهم، وفي الوقت نفسه يغذون مآثرهم بتلك المقالات، وخير أنموذج لذلك (الفنون) لأبي الوفاء علي بن عقيل البغدادي الحنبلي الأشعري -رحمه الله تعالى- وهو أربعمئة سفر، وقد سبق ذلك السفر الأول بعنوان (هكذا علمني ورد زورث) وهو موقوف على الفن والأدب، والسفر الثاني بعنوان (لن تلحد)، وهو تحرير النظرية المعرفة تأصيلاً وتطبيقاً، والسفر الثالث بعنوان (اللغة العربية بين القاعدة والمثال)، والسفر الرابع بعنوان (هموم عربية) يتناول الحضارة والبيئة وهموم الثقافة، والسفر الخامس وهو سفر منوع المعارف وأغلب ما فيه الجانب الأدبي.. ولقد تناولت فيه موضوع افتتاح المصنفات؛ فرأيت هؤلاء المعاصرين يعدلون في مصنفاتهم عن البسملة والحمدلة، أما عدولهم عن البسملة فلا يجوز ويأثمون وقمين ألا ينفع الله بمؤلفاتهم، وأما الحمدلة والشهادتان والصلاة على النبي صلى اله عليه وسلم، فمن الأمور الفضيلة المستحبة، ولكنهم لا يأثمون بترکها؛ فقد رأيت الإمام البخاري -رحمه الله- يبدأ صحيحه بكيف كان بدء الوحي ولا يُحَمْدِل، وقد سبقه شيوخه من أهل عصره کـ (مالك)، و(عبد الرزاق)، و(أحمد)، و(أبو داوود)، وقد نقل الحافظ ابن حجر اعتذار العلماء عن البخاري في فتح الباري ج1 ص 8-9، وأوجه ما في هذه المعاذير: أنَّ أحاديث اشتراط الحمدلة والشهادتين ليست على شرطه؛ لأنها لا تخلو من مقال، وأنَّ ذلك لا يتعين نطقاً وكتابة معاً؛ فلعله حمدل وتشهَّد نطقاً، وأن كتب رسول الله إلى الملوك، وكتبه في القضايا من مفتتحة بالتسمية دون الحمدلة؛ فيا شباب أمتي إنني سالك بکم مسلك الرخصة، ومعفيكم من الحمدلة، أفتثقل عليكم البسملة وهي واجب؟!.
قال أبو عبدالرحمن: في القرن التاسع عشر ظهرت الماركسية تتنبأ باتحاد العالم في مجتمعٍ اشتراکيٍّ ينعدم فيه الصراع الطبقي، ذلك أنَّ فلسفة الماركسية تقوم على المنهج الجدلي والمادية التاريخية، ونبوءة الماركسية نتيجة للتعرف على أصل المجتمع، ثم تفسير أزمة العصر أو النظام. وفي القرن التاسع عشر ظهرت الداروينية تتنبأ بالسوبرمان (الإنسان الكامل)؛ لأنَّ دارون تعرف على أصل الإنسان العضوي، ثم فسَّر كأنه الراهن، ثم كانت النبوءة. وفي القرن التاسع عشر ظهر علم الميثولوجيا يتنبأ براحة اليقين التام في أمور العقيدة، ذلك أنَّ الميثلوجية تتعرف على أصل التكوين العقائدي للبشرية، ثم تفسر القلق العقائدي المعاصر، ثم تكون النبوءة.. ولهذا وصفت نبوءة القرن التاسع عشر بأنها إنسانية لشمولها، وبأنها متفائلة، وبأنَّ باعثها العلم والعقل والتجربة.. وعن هذه الرؤيا قامت مذاهب أدبية هي الواقعية والطبيعية والرومانسية أحياناً.. انظر كتاب (شعرنا الحديث إلى أين) لغالي شكري.. بيد أنَّ رؤيا القرن التاسع عشر لم تصدق؛ فجاءت رؤيا القرن العشرين تنسف المعقول والعلم والتجربة، ومن ثم قامت مذاهب أدبية تقوم على أساليب الفكر اللاعقلي واللاعلمي واللاحسي کالخدم واللاتحدد، ومن هذه المذاهب السريالية والدادية والعبثية والشيئية.
قال أبو عبد الرحمن: ها هنا أمور: أولها أنَّ كذب النبوءات الثلاث لا يعني الإفلاس من منطق المعقول والعلم والتجربة؛ وإنما يعني أنَّ هذه النبوءات لم تتوج بمنطق العقل والعلم والتجربة.. إذن لابدَّ من مراجعة عقلية وعلمية جديدة لنبوءات كاذبة، ولا يجوز الانسلاخ عن نعمة العقل والعلم.. وثانيها أنَّ أساليب الفكر اللاعقلي تقبل بمعيار جمالي لتكون في النهاية تعبير غير مباشر عن حقيقة عقلية، أو علمية، أو تجريبية، وكل عمل فني جمالي هذه هي طبيعته.. ولا يجوز أنْ تكون نتائج الأساليب اللاعقلية هي الرؤيا العملية لا سيما أن الأمة متخلفة لم تستطع بعد صنع محرك السيارة، ذلك أنَّ جبابرة الفكر الذين غزوا الفضاء لم يضلوا عن حتميات العلم والتجربة والعقل، ولم يهتدوا قط بجنون اللاعقل.. ولا يجوز أنْ تكون الأساليب اللاعقلية منطقاً لأمة لها من دينها راحة وطمأنينة تؤمن بالواقع المغيب كإيمانها بالواقع المحسوس.. وثالثها أنَّ اللاعقلانية صورة فكرية لواقع أمة من الهيبز لفظتها عظمة العصر؛ فعاشت في الحانات والمواخير تتعاطى المخدرات والعقاقير، والأمة العربية ترفض أنْ تقيم أدبها الحديث على حثالات فقدت مكانها وميدانها في عصر المدنية والعظمة الفكرية، وإلى لقاءٍ قادم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -