تتسارع جهود العالم من أجل تنفيذ أهداف التنمية المستدامة 2030؛ الخطَّة التي لا مناص من تحقيقها للحفاظ على كوكب الأرض قابلاً للعيش وصالحاً لأجيال المستقبل. وعلى الرُّغم من أنَّ خطَّة التنمية المستدامة حثَّت الحكومات الوطنيَّة على متابعة تنفيذها والإفادة عن ذلك بصورة دوريَّة، إلَّا أنَّ الأعوام الأولى منذ تبنِّي هذه الخطَّة في 2015م كشفت عن صعوبات كبيرة في متابعة تنفيذ الأهداف والغايات على المستوى المحلِّي ممَّا استلزم معه استحداث آليَّة لمعالجة هذه المُعضلة، فكان «الاستعراض الطوعي المحلِّي Voluntary Local Review»، الذي يُمثِّل وسيلة مهمة وفاعلة لتحقيق التنمية المستدامة لجميع الدول بوجهٍ عام وفرصة للمملكة لتحقيق العديد من المكاسب على وجهٍ خاص.
تُشكِّل أهداف التنمية المستدامة مزيجاً متنوِّعاً ومتكاملاً من الضروريَّات والطموحات، وهي تتكوَّن من 17 هدفاً يتم تحقيقها من خلال 169 غاية، وذلك عبر قياسها ومتابعتها بواسطة 231 مؤشِّراً. شموليَّة هذه الأهداف السبعة عشر تتمثَّل في أنَّها تتوزَّع ما بين الأبعاد الثلاثة للتنمية: المجتمع (Society) والاقتصاد (Economy) والبيئة (Environment)، كما يتَّضح تكاملها من خلال دمجها بين ما يهمُّ الناس (People) وما يختص بالكوكب (Planet) وما يتعلَّق بالازدهار (Prosperity) جنباً إلى جنب مع تعزيز السلام (Peace) وتأكيد الشراكة (Partnership)، وهي ما يُطلَق عليها مسمَّى الـ(5Ps).
إنَّ تسارع الخُطى الحالي لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، والذي يكشف عن قناعة بدأت تترسَّخ في أذهان الدول والشعوب، نتج عن الاضطراب الكبير الذي يشهده العالم خلال الأعوام الأخيرة من كوارث بيئيَّة وجوائح صحيَّة إلى جانب الأزمات الاقتصاديَّة والمشاكل الاجتماعيَّة. وعلى الرُّغم من طغيان مشكلة التغيُّر المناخي بتأثيراتها الواضحة وهيمنة جانب الصحة العامة جرَّاء انتشار جائحة كورونا، إلَّا أنَّنا في نفس الوقت لا نستطيع أن نتجاهلَ الظهور المُتتالي للصدمات الاقتصاديَّة المُربكة لاقتصاديَّات الدول وسلاسل الإمداد (Supply chains)، ولا يسعنا أن نُنكرَ البروز المتفاقم لمشاكل اجتماعيَّة عميقة مثل العدالة الاجتماعيَّة والفقر الحضري! هذا التنوُّع المتشابك للمشاكل التي يُعاني منها العالم، بِقسمَيه المتقدِّم والنامي، يلفت انتباهنا لأهميَّة أهداف التنمية المستدامة لكونها شاملة للجوانب المختلفة ويتكامل بعضها مع بعض، والأهم أنَّها حتميَّة لا جدال فيها.
حرصت خطَّة التنمية المستدامة على استحداث آليَّة تُساعد الحكومات الوطنيَّة على متابعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة ومشاركة التجارب والدروس والتحدِّيات المصاحبة لذلك مع الدول الأخرى، وذلك عبر ما يُعرف بــ»الاستعراض الطوعي الوطني Voluntary National Review»، وهو مراجعة التقدُّم في تنفيذ الأهداف على مستوى الدولة ككُل، وعرض التقرير الخاص بذلك في الاجتماع السنوي لـ»لمنتدى السياسي رفيع المستوى the High-Level Political Forum « الذي يُعقد في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، والذي يُشكِّل الإطار المؤسَّسي لمتابعة وتقييم التقدُّم المُحرز في أهداف التنمية المستدامة. وحتى العام المستهدف من الخطة، وهو عام 2030، فمن المطلوب من كل دولة تقديم (تقريرَين) للاستعراض الوطني على الأقل. وقد أعدَّت المملكة تقرير الاستعراض الطوعي الوطني الأوَّل في عام 1439هـ/ 2018م وقدَّمته للمنتدى السياسي رفيع المستوى الذي انعقد في يوليو من ذلك العام.
ولكن نظراً إلى أنَّ غياب المشاركة الفاعلة للجهات الحكوميَّة وأصحاب المصلحة على المستوى المحلِّي (مستوى البلديَّات والمدن والمناطق) يمكن أن يُعيق تنفيذ ما لا يقل عن 105 غايات، وفقاً لما أوضحته «منظَّمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD»، أو 65 في المائة، وفقاً لمنظَّمة «تحالف المدن Cities Alliance»، من الغايات الــ 169، فقد صاحب متابعة الحكومات الوطنيَّة لتنفيذ الأهداف صعوبات متعدِّدة. إن للمدن نصيبا وافرا من مسؤوليَّة تنفيذ أهداف خطَّة التنمية المستدامة، وعلى الرُّغم من أن هناك هدفا واحدا من ضمن الأهداف السبعة عشرة يتناول المدن بصورة صريحة، وهو الهدف 11: جعل المدن والمستوطنات البشريَّة شاملة للجميع وآمنة وقادرة على الصمود ومستدامة، إلَّا أنَّ المتأمِّل في طيفٍ واسعٍ من الأهداف يلحظ ارتباطها بالمدن لكونها مستقراً لأكثر من 56 في المائة من سكَّان العالم حالياً (و60 في المائة في عام الهدف 2030). فالهدف 4 المتعلِّق بالحصول على التعليم الجيِّد، والهدف 6 المرتبط بتوفير المياه وخدمات الصرف الصحِّي، فضلاً عن الهدف 7 الذي يركِّز على الحصول على الطاقة الحديثة الميسورة وغيرها، جميع هذه الأهداف لا يمكن التفكير في تحقيقها دون استصحاب المدن لكونها القاعدة الأولى لتنفيذ ذلك، فضلاً عن حاجة العديد من الغايات لمسؤوليَّات وكفاءات للتنفيذ على المستوى المحلِّي. ونجد أنَّه حتى ديسمبر 2019، كان من الواضح أنَّ حوالي نصف عدد المؤشِّرات البالغ عددها 231 مؤشِّراً غير مكتملة بصورة منهجيَّة أو غير متوافِّرة، خاصة تلك التي يتطلَّب جمعها على المستوى المحلِّي وفقاً لتصنيفات معيَّنة مثل النوع والعُمُر.
وبناءً على التحدِّيات أعلاه، فقد تمَّ استحداث «الاستعراض الطوعي المحلِّي Voluntary Local Review»، والذي يمكن تعريفه بأنَّه (العمليَّة التي تشرع فيها الحكومات المحليَّة والإقليميَّة، وبصورة طوعيَّة، في إجراء تقييم لتقدُّمها المُحرز في تنفيذ خطَّة التنمية المستدامة وأهداف التنمية المستدامة الخاصة بها. وهذا ما يجعل من الممكن للحكومات المحليَّة والإقليميَّة تبادل الخبرات والتحدَّيات والدروس المستفادة، بالإضافة إلى فتح الأبواب لشراكات جديدة وسدِّ الفجوة في وسائل التنفيذ من أجل الرؤى المحليَّة لكلٍّ منهم)، ويتم توضيح ذلك الاستعراض في شكل تقرير.
تمَّ تقديم أوَّل «استعراض طوعي محلِّي VLR» في المنتدى السياسي رفيع المستوى لعام 2018 بواسطة مدينة (كيتاكيوشو Kitakyushu) اليابانيَّة جنباً إلى جنب مع بلديَّتَين يابانيَّتَين هما (شيموكاوا Shimokawa) و (توياما Toyama). كما تعتبر مدينة نيويورك من المدن الأولى والرائدة التي أعدَّت وقدَّمت استعراضها الطوعي المحلِّي أيضاً في عام 2018. ومنذ ذلك الوقت، تتسابق المدن والبلديَّات والأقاليم (المناطق) في إعداد وتقديم استعراضاتها الطوعيَّة، حيث زادت القائمة من 16 في بداية 2020 إلى أكثر من 100 مدينة وبلديَّة وإقليم حتى الآن.
وإلى جانب كونها وسيلة للتحقُّق من والمساعدة في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة على المستوى المحلِّي، تُعتبر الاستعراضات الطوعيَّة المحليَّة أداة قويَّة وداعمة لتسريع التحوُّل في المُدن، وذلك من خلال توفيرها لفرص مهمة تتمثَّل في إتاحة الفرصة للحكومات المحليَّة للاستماع لاحتياجات المواطنين واستصحابها في صُنع السياسات المحليَّة؛ وتهيئة الطريق لتطوير حلول للتحدِّيات القائمة في المدينة من خلال استجابة متكاملة ومتعدِّدة القطاعات؛ كما توفِّر نهجاً يعتمد على البيانات يمكن استخدامه للتخطيط والعمل من أجل المستقبل المنشود؛ فضلاً عن إضفاء النظرة المحليَّة للنقاش العالمي حول التنمية المستدامة .
تتنوَّع المناهج المستخدمة لإجراء الاستعراض الطوعي المحلِّي بين المدن التي أخذت على عاتقها القيام بذلك، نظراً للاختلافات الكبيرة فيما بين الحكومات المحليَّة / الإقليميَّة وتنوُّع سياقاتها المؤسَّساتيَّة وحدودها الإداريَّة إلى جانب مواردها المُتاحة. فبعض الاستعراضات قامت بمراجعة جميع أهداف التنمية السبعة عشرة (مثل بريستول Bristol)، وبعضها ركَّز على عدد محدَّد من الأهداف إمَّا لكونها الأهداف التي ترتبط بالمنتدى السياسي رفيع المستوى في ذلك العام (مثل نيويورك New York) أو لكونها تتداخل مع أهداف وأولويَّات المدينة (مثل تايبيه Taipei)، فيما اتَّخذ البعض منها مسلكاً ينحو لمراجعة هدف واحد فقط غالباً ما يكون الهدف 11 الذي يختص بالمدن (مثل سيون Suwon) أو المزج ما بين أكثر من منهج (مثل لوس أنجلوس Los Angeles). وعلى ضوء هذا الاختلاف والتعدُّد في المناهج، اختلفت تقارير «الاستعراض الطوعي المحلِّي VLR» تبعاً لذلك، ولكن هناك تأكيدا على أنَّ أي تقرير يتضمَّن ثلاثة معايير أساسيَّة يمكن اعتباره تقرير استعراض طوعي محلِّي. هذه المعايير هي: الإشارة الواضحة لخطَّة 2030 وأهداف التنمية المستدامة كإطار لعمليَّة الاستعراض، وأن تكون الجهة المسؤولة والمنفِّذة لعمليَّة الاستعراض جهة محليَّة، ووجود عناصر (أدوات ومؤشِّرات) محليَّة لمراجعة ومتابعة عمليَّات التنفيذ .
أهميَّة الاستعراضات الطوعيَّة المحليَّة لمدن المملكة
تمثِّل الاستعراضات الطوعيَّة المحلِّيَّة فرصةً مهمة للمدن في المملكة يجب استغلالها، وفي هذا الوقت تحديداً، للشروع في إحداث تحوُّل حقيقي نحو الاستدامة وجودة العيش والنمو المزدهر. وتعود هذه الأهميَّة لعدَّة عوامل مجتمعة:
- تُمثِّل عمليَّة الاستعراض الطوعي المحلِّي آليَّة لتسخير جهود مختلف الجهات الحكوميَّة وأصحاب المصلحة والشركاء المتعدِّدين عبر تمكين التواصل الفعَّال والتعاون المشترك، ممَّا يُمهِّد الطريق نحو تحديد المشاكل ووضع الأهداف الخاصة بالمدينة بصورة جماعيَّة مُتَّفق عليها. يؤدي ذلك ليس فقط لإجراء استعراض طوعي محلِّي ناجح، وإنَّما يُشكِّل أيضاً قاعدة صلبة لتحقيق العديد من الرؤى التي تتعلَّق بالمدينة بدءًا من رؤية المملكة 2030، مروراً باستراتيجيَّة التطوير المتعلِّقة بالمنطقة وانتهاءً بالمخطَّط الاستراتيجي للمدينة. فتعدُّد الجهات الإداريَّة وتداخل مسؤوليَّاتها وصعوبة إنشاء إطار للتعاون فيما بينها، سواءً على المستوى الأفقي أم الرأسي، كان وما زال من أهم العقبات التي تكتنف مسيرة الإدارة المحليَّة بالمملكة.
- يعمل الاستعراض الطوعي المحلِّي على مراجعة أهداف التنمية المستدامة وتحديد تلك الأهداف الأكثر صلةً بالمدينة، والأهم من ذلك أنَّه يعمل على تطوير مؤشِّرات محليَّة لمتابعة أهداف وغايات خطَّة التنمية المستدامة. يؤدِّي إضفاء البُعد المحلِّي لأهداف التنمية عبر تطوير المؤشِّرات الحضريَّة إلى استكشاف مختلف نقاط القوَّة والضعف للمدينة، إلى جانب مقوِّماتها ومنجزاتها فيما يتعلَّق بالتنمية المستدامة. وهذا يقود من جانب إلى معرفة أفضل بالحالة الرَّاهنة للمدينة، ومن جانبٍ آخر إلى إعادة الزَّخم مرَّةً أخرى إلى المراصد الحضريَّة، التي توفِّر مؤشِّرات (محليَّة) مهمَّة لا غنى عنها لتنفيذ مختلف الخطط والاستراتيجيَّات التي تتسارع مدن المملكة لإعدادها وتنفيذها ومراجعتها في هذه الآونة.
- تقودُ المملكة حالياً اتِّجاهاً عالميَّاً نحو تعزيز الاستدامة وتفعيل العمل المناخي، كما يتَّضح من خلال المشاريع التي يجري العمل عليها والمبادرات الرائدة التي أُطلقت مؤخَّراً، مثل مشروع الرياض الخضراء ومبادرتَي السعوديَّة الخضراء والشرق الأوسط الأخضر. تستلزم هذه الريادة أن تقوم المدن في المملكة بدورها المتمثِّل في إعلان التزامها بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة عبر الأخذ على عاتقها إجراء الاستعراض الطوعي المحلِّي.
- نظراً لعدم نجاح أي مدينة على مستوى المملكة أو الخليج أو الشرق الأوسط، حتى الآن، في إعداد وتقديم استعراض طوعي محلِّي للمنتدى السياسي رفيع المستوى (هناك استعراضان لمدينتَي عمَّان والرَّباط تحت الإعداد)، فإنَّ الوقت يبدو مثاليَّاً لمدن المملكة لتأكيد الريادة ضمن هذا المحيط الإقليمي التي تتواجد فيه، وتقديم نماذج في الاستعراض يمكن أن تشكِّل مرجعيَّة لدول المنطقة. وممَّا يجدر ذكره أنَّ المملكة ضمن خمس دول فقط في «مجموعة العشرين G20» لم تقم بإجراء هذا الاستعراض ممَّا يحتِّم المسارعة في ذلك لتأخذ مكانها الطليعي جنباً إلى جنب مع بقيَّة الدول التي قدَّمت مدنها العديد من الاستعراضات المحليَّة.
- يُشكِّل الاستعراض الطوعي المحلِّي مناسبةً لمدن المملكة للتعاون بينها فيما يتعلَّق بالتحدِّيات الحضريَّة المشتركة ومحاولة الوصول لمؤشِّرات قياس محليَّة بناءً على التجارب المتبادلة. وفي نفس الوقت، يؤدِّي قيام العديد من المدن باستعراضاتها المحليَّة إلى تعزيز عمليَّة إعداد الاستعراض الطوعي الوطني VNR وفقاً لبيانات شاملة وموثوقة.
لقد بدأ الاهتمام بأهداف التنمية المستدامة يكتسبُ زخماً متزايداً هذه الأيَّام تحت ضغط التغيُّر المناخي. وفي شهر أكتوبر المنصرم، الذي يُعرف في أوساط الأمم المتحدِّة والمنظَّمات العالميَّة المهتمَّة بالتنمية بأكتوبر الحضري، تعالت الأصوات هذا العام من أجل تسريع الإجراءات الحضريَّة من أجل عالمٍ خالٍ من الكربون والدعوة إلى تكيُّف المدن من أجل المرونة المناخيَّة . كما صاحب شهر نوفمبر الزخم العالمي لانعقاد الدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقيَّة الأمم المتحدَّة الإطاريَّة بشأن تغيُّر المناخ (COP 26) في غلاسكو، وفي صميم هذه الدَّعوات التي تلفت الانتباه إلى تحدِّيات المناخ على وجه الخصوص وإلى أهداف التنمية المستدامة على وجه العموم، يأتي الاستعراض الطوعي المحلِّي كمتطلَّب أساس للمُضي قُدُماً نحو تحقيق أهداف خطَّة 2030 نحو مستقبلٍ أكثر ازدهاراً واستدامةً.
** **
- د. زاهر عثمان