علي الخزيم
أبو دحيِّم (رمز) لرجلٍ لطيف مُتمسِّك بأصول عادات وتقاليد الأجداد وسلوكهم الغذائي ومراسم الضيافة لديهم؛ يَعتز بها وينتقد بأدب من يتخلَّى عنها، وهو لذلك لا يتخلّى عن وجبة الـ(الحنِينِي) النَّجديّة الشتوية؛ وصويحباتها من الكليجا وقرص العقيلات والمُحلَّى والمراصيع والمصابيب المُفعمة بالسمن والدبس مع بهارات مُلطِّفة مُشهِية، فكلما انصرم الشتاء واعتدل مُعدَّل سكَّر الدم والدهون والضغط بجسمه؛ لا تلبث أن تعود نسمات الهواء البارد مؤذنة ببدء شتاء جديد، لينهض الرجل الطيب للاستعداد لوجباته التي يؤمن أنها خير ما يُدفئ خلال موسم البرد والصقيع، وهكذا ما زال من أكثر المراجعين للمركز الصحي بالحي؛ يعرفونه هناك كما يعرفون الصبح والمساء، وحفظوا أدويته وعلاجاته، وباتوا يتوقعون أوقات مجيئه للمركز لدرجة أنهم فكَّروا ببرنامج لتجهيز علاجاته حسب فصول السنة، فلكل فصل له قضية ومسألة صحِّية؛ فوجبات الشتاء الدسمة والحلوة لها شأن بأوعيته الدموية والقلب، والمرقوق والقرصان والجريش مع الشطة والفلفل الأحمر فائق الحرارة لها مفعولها بجهازه الهضمي، أما موسم الرُّطب والبطِّيخ وما جاورها صيفاً فلها عنده مراسم لا يجاريه بها أحد من خلق الله، حتى أن جاره المُخلص ـ العارف بحاله جداً ـ إذا شاهده يحمل الرطب والفواكه الصيفية لمنزله لا يبتعد كثيراً لعلمه أنه لا محالة مُلتهم ما تيسَّر له منها ومن ثم سيُسرع أطفاله للجار طالبين النجدة بإيصاله بسيارته لأقرب طبيب أو مستوصف حيث إنه بحالة شبه إغماء جَرَّاء تصاعد مؤشرات الخلل الشامل (داخل جسمه وخارجه).
وبنظري إن هذا الرجل التّقليدي يستحق لقب بطل شعبي ولو من الدرجة الخامسة نظير إصراره على التمسُّك بعادات جَدِّه من حيث ازدِراد تلك الوجبات؛ وجَدَّته من حيث الانصراف لإعدادها وإجادتها شكلاً ومضموناً بما يليق بالمواطن أبو دحيم؛ ولأنه الوحيد الذي اكتشف (حُوف) جدته ـ أي نَفَسها بالطبخ ـ وأراد بإلحاح عجيب إحياء ذكراهما بوجبة تناسب كل شهر من شهور السنة، مُضَحِّياً بمقومات صحته وعافيته الجسدية والنفسية و(العقلية)! ويتجدد حماس صويحبنا لينسحب على من يُجامله من الأبناء بممارسة غوايته الغذائية، غير أن عاقلهم من اتَّعظ به وهو يشاهد ما يحل بوالده تبعاً للتلذُّذ بأطباق جدَّته؛ وتقليد جَدِّه بمهارة إخلاء الأطباق من مكوناتها، أما الأحفاد ممن يسكنون معه ـ أو هو يسكن معهم ـ فهو لم يدَّخر وسعاً لإقناعهم بجودة الحياة مع (الدَّسم والبُر والعسل والدِّبس والحِبْحَر الحار) ويُخاتِل آباءهم أو بغيابهم عن المنزل ليُغرِي الصغار بما يؤمن أنَّه أطيب طعماً وأزكى طعاماً، مستشهداً بأن الأجداد لم يكونوا يعرفون الأمراض الحديثة لالتزامهم بأطعمتهم التقليدية الشعبية؛ وأنهم أطول أعماراً، وأصح أبداناً ورُكَبَاً وأسناناً، وأنهم فوق ذلك كانوا ينامون هانئين (ويُنجِبون) أكثر من الجيل الحاضر.
لم تفلح جهود (أبو دحيِّم) بإقناع الأحفاد بتلك الصورة والأسلوب وهم مَنْ يَسْتنجدون كثيراً بالجار لنقله لطبيب يداويه ممَّا يدعو إليه؟! فجَودة الحياة عند الأجيال الحاضرة يجب ألَّا تخضع للمجازفة والإسراف بالمحذورات، بل الاتزان والوسطية والاستمتاع بمعطيات الحاضر البريئة دون إهدار للصحة والمال والدِّين والمستقبل!