عبدالمحسن بن علي المطلق
ذهب (الصالح) -مما نعرف عنه- الشيخ اللحيدان، فعادت سحائب تجدد الأحزان بفقد العلماء، وهذا لعمري الذي يُكلم الفؤاد، وربما يشطره..
أرثيك يا رجُلاً توارى ذِكرهُ
بين الأنام، وهل يفيد بيانِ
نعم.. كذا ما تنضوي عليه الحال إزاء فقد الأخيار، بخاصة النوادر الأفذاذ، ولعلي أحمد لصحيفة «الجزيرة» حين ساقت خبر الصلاة عليه تنويهها لإمامة (المفتي)، صاحب السماحة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ -حفظه الله- للمصلين، بقولها: إن هذا، أي الذي جرى كان..{على غير العادة}..نعم، نعم، لأن الفقيد فوق العادة..
فحسب يومنا -الذي واريناه فيه- قد انقطعنا عما يُشغل بالمعتاد.. من أمور حياتنا في وسائل التواصل حتى (المجموعات) الأُسرية لتنصبّ بوفاته غالب نصيب.. ما نتداوله، مع تبادل العزاء (مواساةً) بعضنا ببعض، وليس بكثير.
* فأمّة تعرف لعلمائها قدرهم، ولحملة ميراث النبوّة مكانتهم ما يجعل خبر رحيلهم ليس كموت أحاد الناس، فأدنانا معرفةً إلا ويعي (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الزمر آية 9]، الجواب: قطعًا لا، فأمثال هذه الأسئلة ما لا تحتمل سوى جواب واحد: لا، وهاك مثال آخر: (هَل مِن خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرضِ) الإجابة.. بختم ذات الآية (..لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ) [فاطر 1-3].
من هنا تكون الأحزان مضاعفة والفقد مؤثّرًا، بخاصة مع عالم له حضوره وتأثيره على كل المستويات.
فالراحل منذ أن وعينا الدنيا نعرفه من خلال علمه وجهده، وبذله ما يستطيع وهذه -الأخيرة- فيها فيصل، على نحو ما علّق على الآية (ولَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها)، ابن القيِّم -رحمه الله- في «أعلام الموقعين»: (الرِّفعة عند الله ليست بمجرد العلم)،..
فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقَصْدِ مرضاة اللَّه)
ونلاحظ هذا بجمل من إجمالاته التي تسطّر على جبين المتعلّم قبل العالم:
(نحن لا نعتزّ بأموال طائلة ولا بجيوش جرارة، ولا بتفوّق بالصناعة، وإنما نعتزّ بالعقيدة وصفائها، والأخلاق وصيانتها، والشريعة وتحكيمها..) الخ
فهذه الكلمات المضيئات لا يحسن سبكها على هذا النحو سوى من سبر العلم وغار بأعماقه ليخرج لنا درر مما تحتاج لسفرٍ -بلا مبالغة- (بين دفتين) يبسطها..
فلِله الغائب الذي برحيله يُخفت النور، وفي مضيّه يمضي تاريخا طيبا.. كم كان بحضوره يرنّ، فانطفأ سراج من المعرفة لطالما أضاء الطريق، وكان به نِعم الرفيق..
* يذهب الشيخ «صالح بن محمد اللحيدان»
وبعد أن بلغ عمرًا مباركاً -كذا نحسب- زهاء 93 سنة (1350 هـ - 1443 هـ)، وقد/ صحب ذاك عمل دؤوب منه وحضور باهر، ولا أزيد بعد هذه/ فـ.. بوجه مما لم يكن خافيا إبّان معمعة قيادته للقضاء، ونقلاً عن أحد المسؤولين:
(.. كان سماحته يراجع مستشفى التخصصي بالرياض لإجراء الفحوصات والتحاليل وكانت الفترة بين التحليل والدخول على الطبيب تقارب الساعتين، فكان يذهب لمكتبه ثم يعود في الموعد، فبادرنا من تلقاء أنفسنا بالعرض على الشيخ بأن يبقى في مكتب أحدنا في المشفى لحين موعد الدخول على الطبيب فوافق وكنا نظنه سيجلس لشرب القهوة والشاي والإفطار، وتفاجأنا بأكوام من أكياس «الخيش» المعاملات تُفتح بين يديه ويقوم بدراستها والشرح عليها، أُصبنا بالذهول وأدركنا حينها كيف استطاع أن يدير الجهاز القضائي لوحده)..
وربما أخصّ ما بثّ من «فتاوى» كان لها قدر عند الأمة، لثقة به وأهلية- مكانة- بلغها.
* يرحل وقد أخذ مكانةً في قلوبنا يستحقها بالطبع، وحسبه ما تبوَّأ من منزلة عند ولاة أمرنا.. الذين -حفظهم الله-، لأنهم يولون العلم منزلة، و(من هنا ) يعطون أهلهُ قدرهم، وهذا ما نجده بالمناصب التي تعددت، والتي هي - المناسبة- من بسماحته تشرّفت..
إذا جلس الغنيّ على الحشايا
فأنت على المنابر قد جلستا
* هذه جنائز (الصالحين)..
في عصر يوم الأربعاء زمانًا، جامع الراجحي مكانًا، والمفتي إمامًا رفع الله شأنه والقدر، وأجزل له المثوبة والأجر.. يومئذ كان المشهد والشاهد على سواء في صواب كلمة بلغت الآفاقًا، وقد سُطرت بقلوب أهل السنّة، لأنها من إمامهم أحمد بن حنبل -رحمه الله، حين نفثها دفوعات عنه ومثله..بوجوه المبتدعة: (موعدكم يوم الجنائز)!
.. فكان (شهادة) الحضور للفقيد الغالي والعلماء الربانيين كذلك، إذ أمّ تلقاء الجامع وفود تقاطرت زرافات ووحدانا، وهي قادمةً من كل حدبٍ وصوب..
لن أُثبت الثابت مخافة اللجاجة من أن فقد الأمة لأحد علمائها أو مصلحيها ثُلمة، بل من حالكات الرزيا..
لكن ولأن الموت حق، وربما ظرفية كهذه، كما في جنازة (ابن حنبل).. عاد بها مسرفٌ على نفسه، أقصد أن تلكم لها خيرية على نوعيّة استيقظت من عمْه ما كانت فيه سادرة، أو في أتون مشاهيها راتعة مقابل يا لحظّ من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان، جعلنا الله وإياكم منهم.
* إحاطة..
كتذكير لبعض حقّه علينا، ولتعريف الجيل بمن أشادوا (كيان) ما يشاهدوا، أنموذجهم في شخص (اللحيدان) شاخصًا، فقد كان قامة بالعلم والتخصص (القضاء)، لأشيد هنا بأسطرّ ثقل عليَّ المرور عليها ولا أوردها، من يراع القاضي «محمد الفعيم» سلّمه الله:
(أُحيط القضاء في عهد سماحته بسياجٍ من الهيبة والحفظ قلَّ له نظيرُ فيما بعده، فلم يكن سماحته يقبل مخاصمة الجهات الإدارية أو الشخصيات النافذة للقاضي، بل كان يصرّح بحفظ جناب القضاة واحترام هيبتهم في مكاتباته الخاصة والعامة، وشواهد ذلك كثيرة جداً مما سمعه وتسامعه الخاصة والعامة في ذلك).
ولعل لهذا كأن الغالي تزيّل إليه ما يماسّ معنىً لأبي العتاهية/
لم يكن يصلح إلا له
ولم يكن يصلح إلا له
* نبذة..
- كان عالمًا، وقاضيًا، وإمامًا (خطب يوم عرفة قبل 44، أي في العام 1399هـ..)
- تم تعيينه كمساعدٍ لرئيس المحكمة الكبرى بالرياض في عام 1383هـ.
حصل على رسالة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1389هـ واستمر رئيساً للمحكمة الكبرى إلى أن عُيِّن عام 1390 هـ قاضي تمييز وعضواً بالهيئة القضائية العليا.
- عام 1403هـ عُيِّن رئيساً للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، واستمر في ذلك نائباً لرئيس المجلس في غيابه.
- عُيِّن عام 1413هـ رئيساً للمجلس بالهيئة العامة والدائمة.
- عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1391هـ.
- عضو في رابطة العالم الإسلامي.
- عمل سكرتيراً للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية السابق.
- شغل منصب رئيس المحكمة الكبرى بالرياض في عام 1384هـ.
- في عام 1403هـ تم تعيينه كرئيسٍ للهيئّة الدّائمة بمجلس القضاء الأعلى.
- عضو في هيئة كبار العلماء منذ تأسيسها في عام 1391هـ.
- عضو في رابطة العالم الإسلامي.
- مؤسّس مجلّة راية الإسلام، ومديرها ورئيس تحريرها.
* المؤلفات:
له.. كتاب «شرح القواعد الأربع»، و«فضل دعوة محمد بن عبد الوهاب»، و«إيضاح الدلالة في وجوب الحذر من أصحاب الضلالة»، و«شرح حديث معاذ حق الله على عبيده».
* اللهم اغفر لعلمائنا ودعاتنا وجميع المسلمين، ومصلحينا وأدخلهم مدخلًا كريمًا، واخلف على الأمة خيرًا مما فقدت، يا سميع الدعاء - آمين -
وصلّى الله على «إمام» المتقين، محمد- صلى الله عليه وسلّم.