هَنيئاً لَهُ قَد طابَ حَيّاً وَمَيِّتاً
فَما كانَ مُحتاجاً لِتَطيِيبِ أَكفانِ
الذي انتقل إلى رحمة الله ليلة الأربعاء 2-6-1443هـ، بعد حياة حافلة بالأعمال الجليلة والذكر الطيب، فأديت الصلاة عليه بعد صلاة العصر بجامع الراجحي، وقد أمّ المصلين سماحة الشيخ مفتي المملكة عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، وضاق المسجد بجموع غفيرة من المصلين، ثم حمل جثمانه الطاهر إلى مقبرة حي النّسيم –ملتقى الراحلين– حيث تبعه عدد كبير من أسرته، ومن تلاميذه وزملائه ومحبيه، حتى وُورِيَ في باطن الأرض، داعين المولى له بالرحمة وطيب الإقامة في جدثه إلى نهوض جميع الخلائق من مضاجعهم ليوم الحساب مودعين، وبهم ما بهم من حزن عميق ولوعات الفراق الابدي -كان الله في عونهم- ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال بنيه وأحفاده عند عودتهم وقد خلا منزله من شخصه، ولسان حال كل واحد منهم يردد معنى هذا البيت:
يَعِزُّ عَلَيَّ حينَ أُديرُ عَيني
أُفَتِّشُ في مَكانِكَ لا أَراكا
ولقد أهلّ وأطلّ على الدنيا مولودًا في مدينة البكيرية بمنطقة القصيم عام 1350هـ، فنشأ وترعرع وتربى بين أحضان والديه، وبين إخوته وأخواته، ثم بدأ دراسته الأولى بإحدى مدارس الكُتّاب حيث حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، ثم درس بالمعهد العلمي حتى نال الشهادة الثانوية عام 1375هـ، مواصلًا الدراسة بكلية الشريعة بالرياض حتى نال الشهادة العالية بتفوق عام 1379هـ.
وفي أوائل عام 1380هـ تم تعيينه ملازماً قضائياً وسكرتيراً للإفتاء لدى سماحة مفتي عام المملكة العربية السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وكان محل ثقة وتقدير سماحته، لما يتصف به من حنكة ورأي ثاقب ومعرفة بأحوال الكثير من الناس. وفي عام 1383هـ عُين مساعدًا لرئيس المحكمة الكبرى بالرياض، ثم أصبح رئيساً للمحكمة عام 1384هـ، وفي أثناء تلك الفترة حصل على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1389هـ، واستمر رئيسًا للمحكمة إلى أن عُيّن عام 1390هـ قاضي تمييز وعضواً بالهيئة القضائية العليا التي أصبحت فيما بعد مجلس القضاء الأعلى.
وفي عام 1403هـ عين رئيسًا للهيئة الدائمة بمجلس القضاء الأعلى، واستمر إلى أن عُين عام 1413هـ رئيسًا للمجلس بالهيئة العامة والدائمة..، كما أنه عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1391هـ، وعضو في رابطة العالم الإسلامي، وأسهم في تأسيس مجلة راية الإسلام، وكان مديرها ورئيس تحريرها، وله دروس في المسجد الحرام، وفتاوى في برنامج نور على الدرب، وله محاضرات وندوات ومؤلفات، ومشاركة في مناقشة رسائل الماجستير والدكتورة، وغير ذلك من الأعمال الجليلة المشرفة إلى أن غادر الحياة الدنيا ليلة الأربعاء 2-6-1443هـ، مأسوفًا على رحيله، كما أسلفنا آنفاً -تغمده المولى بواسع رحمته-، فهو ينتقل من قمة إلى قمة أعلى، وهذا يدل على توفيق المولى له، وعلى ثقة رؤسائه لما يتمتع به من أخلاق عالية وغزارة علم وحسن السير في حياته الخاصة والعامة، والأعمال الكثيرة التي تسنمها وتربع عليها، وقلّ أن يُماثل في تعددها:
وَلَيسَ عَلَى اللَّهِ بِمُستَنكِرٍ
أَن يَجمَعَ العالَمَ في واحِدِ
ولنا مع الفقيد بعض الذكريات الجميلة أثناء الفسح الطويلة بالمعهد العلمي، وبكليتي الشريعة واللغة العربية بالرياض وما يدور فيها من تبادل الأحاديث الودية، وبعض المناقشات في بعض المواد الدراسية المفيدة إلى أن أنهيتُ الدراسة بكلية اللغة العربية عام 1378هـ، وفضيلته بكلية الشريعة عام 1379هـ، وبعد ذلك لم نلتقِ إلا في فترات متباعدة، كما نسعدُ بالسلام عليه إذا سنحت لنا الفرصة وأدينا الصلاة معه في مسجده الواقع على الدائري الشمالي بحي التعاون، فنذكره ببعض الذكريات مع مشايخنا الأفاضل علماء الأزهر وإخلاصهم في أداء أعمالهم، وتوجيهاتهم السديدة لنا، التي أضاءت لنا في سيرنا وفي قابل أيامنا العملية -تغمد الله الفقيد بواسع رحمته- وألهم أبناءه وبناته وعقيلته وأسرته كافة، ومحبيه الصبر والسلوان.
جَمَالُ ذِي الأَرضِ كانُوا فِي الحَيَاةِ وَهُم
بَعدَ المَماتِ جَمَالُ الكُتبِ وَالسِّيَرِ
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء - 6 جمادى الآخرة 1443هـ.