رزئت الأمة الإسلامية جمعاء، وفجعت بموت عالم من علمائها، وإمام من أئمتها، إمام من أئمة الهدى ومصابيح الدجى، شهد له بالعلم والفضل القاصي والداني، وسارت بذكره الركبان، وطوقت شهرته الآفاق إنه الإمام الرباني، ناصر السنة، وقامع البدعة؛ سماحة الشيخ صالح بن محمد اللحيدان عضو هيئة كبار العلماء ورئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً رحمه الله وأسبل عليه رضوانه ومغفرته.
أهكذا البدر تخفي نوره الحفر
ويفقد العلم لا عين ولا أثر
خبت مصابيح كنا نستضيء بها
وطوحت للمغيب الأنجم الزهر
بالأمس القريب وضعت الأمة يدها على قلبها، عندما ترامت الأنباء بمرض شيخها، ثم انفرجت أساريرها مستبشرة باستقرار حالته وقرب خروجه من عارضه الذي ألمّ به، وكان مرضه حديث الناس، تلهج ألسنتهم له بالدعاء الصادق بالشفاء والعافية، ولكن لما كانت سنة الله نافذة وأمره واقعاً قضى الله أمراً كان مفعولاً، لتأتي الفاجعة في ليلة الأربعاء الثاني من شهر جمادى الآخرة عام 1443هـ ؛ فودعت البلاد سماحة الشيخ العلامة صالح اللحيدان. وصلي عليه بعد صلاة العصر بجامع الراجحي بالرياض وأم المصلين سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ حفظه الله وجموع غفيرة من العلماء والفضلاء والمصلين الذين امتلأت بهم جنبات الجامع وخارجه في دلالة على عظيم مكانة أهل العلم في نفوس المجتمع ومحبتهم لهم، وكما قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله-: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز.
ولما كان لوفاة الشيخ - رحمه الله- من أثر عظيم ووقع أليم، على نفوس الناس، ومن باب الثناء على المحسنين بسجاياهم الكريمة وخصالهم الحميدة، ومن باب بر الشيخ ووفائه وذكر فضله؛ كتبت هذه الأحرف وسطرت هذه الكلمات.. وماذا عساي أن أقول والفقيد بحجم ومكانة الشيخ صالح اللحيدان - رحمه الله- فالكلمات تتلعثم، ويقف البيان عصياً وكالاً، والفؤاد محزون يكاد يتفطر، والعبارات قد ندت شاردة علي، ولكنها شآبيب من القول بعضها آخذة برقاب بعض في ذكر هذا العالم العلم الذي انهد بموته جانب عظيم من الحكمة والفقه والبصيرة في الدين؛ فأي رجل هذا الذي قضى نحبه، ولاقى ربه؛ إنه طود شامخ أشم، ونجم هوى، وبدر أفل، وكأنه بنيان قوم تهدم.
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
إن الموت آت على كل أحد وهو سنة في الناس ماضية قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} فهو سبحانه الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخراً كما كان أولاً، وهذه الآية كما قال ابن كثير فيها تعزية لجميع الناس، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت.
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب
متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة
عليه مضى طفل وكهل وأشيب
تؤمل آمالاً ونرجو نتاجها
وعلَّ الردى مما نرجيه أقرب
لقد كان الشيخ عالماً يعمل بعلمه، وفقيهاً يفتي على بصيرة، ويتمسك بالدليل والحجة، كان نير الفكر، صحيح الاعتقاد، مطبقاً للسنة، قامعاً للبدعة، داعياً إلى التوحيد، مهاباً وقوراً، رحب الجناب، عف اللسان، قوي الحجة، كريماً، رفيقاً بالأصحاب والزوار، مع الخلق الأتم والأدب الجم.
الشيخ صالح اللحيدان رجل خدم دينه ووطنه وولاة أمره سنوات طويلة وفي مواقع مختلفة؛ فكان الناصح والقوى الأمين، ومحل ثقة وتقدير ولاة الأمور - أيدهم الله-، وكان محل القبول لدى عموم المسلمين وخواص طلاب العلم والقضاة ممن استفاد من علمه في الدروس والمحاضرات في الحرمين الشريفين والمساجد وغيرها ناهيكم عن علمه المبثوث عن طريق وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة.
ومن تأمل سيرة الشيخ يرى جهوداً مباركة في القضاء، والفتوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ونشر العلم، وتقرير العقيدة الصحيحة وفق منهج السلف الصالح.
ولئن كان الشيخ قد مات ثم ووري الثرى، فإنه باق معنا بعلمه، باق بسيرته العطرة، باق بمآثره وكريم سجاياه.
أخو العلم حيّ خالد بعد موته
وأوصاله تحت التراث رميم
وقال آخر:
كم مات قوم وما ماتت مكارمهم
ومات قوم وهم في الناس أحياء
لقد ذهبت يا شيخنا لكن محاسنك لم تذهب، ورحلت لكن فضائلك لم ترحل، إنه الميراث الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إنها العمر الثاني:
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني
وبعد فهذه مشاعر أبت إلا أن تخرج وفاء لفقيدنا ونقول صابرين محتسبين راضين بقضاء الله وقدره إن لِلَّهِ ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، اللهم اغفر لعبدك صالح بن محمد اللحيدان وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين وأفسح له في قبره ونور له فيه، اللهم اجعل مآله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا شيخنا لمحزونون، والحمد لله على قضائه.
** **
- محمد بن إبراهيم السبر