منذ نعومة أظفاري قرأت الحرف تلو الحرف إلى أن تشكلت الكلمات من وحي أحرف مرصوفة المعاني متعددة الأوصاف شقت طريقاً نحو سمو التجربة الإنسانية في تزاوج الأحرف التي تمخضت بكلمات خصبة في بستان الحياة تهلهل في عذب القوافي والنظم.
ابتداء من تلك القصص المصورة التي تحاكي الأطفال إلى الروايات الخالدة التي تنقلت في ربيع الأيام بين أناقة الحرف، وبهاء الكلمة وزخارف الأقوال والصور.
ومن القصص المصورة إلى كل شيء تستطيع أن تمسكه يداي الصغيرتان من الجرائد التي يحضرها أبي إلى المجلات التي تقرأها أمي اتلصص على كل حرف استوعبته براءة طفل ليرسم خارطته.
ماذا عساي أن أقول عن الجرائد رديفة الصحف حينما ينعكس حبرها على أصابع يدي، وأحاول ألا أعكف صفحاتها إذا تحمست وقرأتها قبل والدي كما أنني اتذكر طبعات الجرائد لنفس العدد إذا ما كان هناك تحديثات.
أما الأخبار قد لا أفهمها، ولكن كنت أستوعب الأحرف البارزة في العناوين ما بين تحقيق وتقرير وحوار وشعر ونثر وبريد القراء شكلت بدايات قارئ نهم.
تلك هي الصحف التي استوعبت كل البشر، وحينما نريد اللعب تشق رقعة الكلمات المتقاطعة الخبر حتى نستطيع حل اللغز ويأتي العدد المقبل يوضح حل الأحجية في حال عجزنا عن ذلك، ويأتي من لم يقرأ الصحف وتفوته الأخبار لنستنكر ذلك منه بقولنا ألم تقرأ الصحف؟! حيث إنها المصدر الأيسر والقريب إلى الناس لسهولة توفرها في منافذ البيع وتغطيتها لجميع الأخبار المتنوعة إن كانت محلية على مستوى المدينة أو دولية.
إنها أيام لا تنسى مهما تطور البشر فالذكريات الجميلة تظل جامحة بأصالتها وعراقتها إذا ما تحدثنا عن التنوع في تصنيف الجريدة يجعلنا ندرك تلك التجربة الثقافية العريقة التي تنمو يومياً ولا تموت من الاقتصاد إلى الثقافة والفن والأخبار المتنوعة هنا وهناك ناهيك عن دراسة وتحليل القضايا المجتمعية ونشر الاستبيانات المتنوعة في ثراء معرفي اجتماعي يختزل المعاني بصورة أحرف أنيقة يتلهف القارئ لمعرفة ما بين دفتي الصحيفة.
وجدير بالذكر تلك اللقاءات والحوارات الماتعة مع النخب الثقافية والعلمية والكوكبة الأدبية والزيارات الميدانية وتغطية الفعاليات والمناشط الاجتماعية والمؤتمرات تعودت أن أرى العالم هكذا من خلال الكلمات حتى وإن تطورت التقنية فهي مشتتة جداً.
بعكس الصحف الأنيقة التي تقرأها صفحة تلو الصفحة دون تنبيهات عشوائية، أو رسائل مفاجئة، أو اتصالات، أو محتوى ممتد تجد نفسك غارقاً في تفاصيله التي تسرق وقتك دون مسؤولية ودون أدني شك أنها عبثية التقنية المتسارعة.
وما زالت الصحف تواكب وتطور نفسها في ظل تنامي التقنية إلى أسلوب عصري رائع من منصات الكترونية متنوعة بنفس تلك التجربة الورقية على صيغة رقمية لتشعرك بأنها ليست وليدة اللحظة وإنما تأتيك بكل الطرائق الممكنة حتى تستمتع بقراءتها كما عهدتها، بل وإن أردت أن تعيش نفس تلك التجربة بالضبط تستطيع الاشتراك وتصلك إلى مقرك.
ومما لا شك فيه عزيزي القارئ حينما تريد البحث في موضوع معين في جوجل لا بد وأن يأتي ذلك الكاتب الذي تحدث عن فحوى الأفكار في مقالته أو تقرير يغطي جوانبه أو تحقيق يبرز تلك التساؤلات، لذلك الصحف تمهد الطريق إلى المعرفة وبعدها إذا أردت أن تبحر عليك بالقراءة المتعمقة.
لا يدرك رمزية الصحف إلا شخص عاش تلك الحقبة وخاض تجربة تعددية المعاني في تألق كاتب عمود يصبح حديثاً لمجلس في مناقشة أفكاره وأطروحاته التي كانت تجمل أوقاتنا وتزيدها بهاء متواصلين ومتصلين في الحديث دونما شاشات مضيئة تخطفنا من الوجود أثناء الحضور.
بل إن كتًاب الأعمدة كان حضورهم فعلاً وجودياً يقتضي التفسير والتحليل من كافة أطياف المجتمع، وقد كنا نحرص على حضور لقاءاتهم في التلفزيون بناء على ما كنا نقرأه في عمق كتاباتهم وأفكارهم الخلاقة كونت المنابر الثقافية بشمولية التأطير والتعقيب.
خلاصة القول ما أراه من مواكبة الصحف للعالم الرقمي المتعدد المنصات هو دليل على الحضور الفعلي للمشهد ما بين رائحة الورق والصيغة الرقمية تبقى شامخة في عالم يمشي بخطى متسارعة.