يفتتح الشاعر عباس العاشور ديوانه «خطوات على حمرة الشفق» بتصريحٍ هوياتي مُعتز بانتمائه الجغرافي الريفي، دون إيغال في الهوية كحالة تطرف أو انحياز، بل بصيغة تعريفية متناهية في البساطة ومنسجمة مع طبيعة الروح الريفية الشفيفة والمسالمة، فيعرف ذاته قائًلا: «قرويٌ قادمٌ من أقصى الذكريات الضاربة في الزمن الراحل، وجهي نهر من السمرة المتسافحة على حواف الملامح العربية»، وهنا يبدأ أفق الشاعر بالخروج لهوية أوسع نطاقًا من حدود الريف، فيقول: «الملامح العربية»، ثم يرحل بتصوير تفاصيله متناغمة مع عناصر الطبيعة المتناثرة على جنبات القُرى الأحسائية كدعامة عفوية تزود الشاعر بالطاقة الدافعة للشعر كحالة وجودية تأتي تفصيلاتها في الموضوعات التي يتطرق لها الديوان في الأوراق التالية.
يقول الشاعر:
لأمي.. شبيهة النهارات الجميلة
هذا البياض المدفون على مساحة الورق
ولأبي حيث يسكن الغيب
ذاك الذي أخذت منه قريتي سمرتها
هنا المعبر الأول للعاطفة المتأصلة في روابط الدم؛ الأم والأب كأسباب وجودية، يربطها الشاعر بسمات الريف متمثلة في «النهارات الجميلة» و»البياض المدفون» فهذا اللون لا يشبه إلا أمهات الريف المتسالمات مع كل شيء حولهن حتى أنه يصبح كبطانة مقوية لـ«مساحة الورق».
ثم يُعري الشاعر القرية من لونها بنسبته لوالده الأسمر، وهنا تعالق شديد بين وجه الإنسان وطبيعة أرضه، يفوز به أبناء الريف الذين هم أقرب لرائحة أراضيهم وطبائعها.. بعدها، ينتقل الشاعر إلى هموم الذات، فيحاول البحث عن نافذة للحياة مُتسلحًا بأدواته الخاصة، قائلًا:
هل ثم نافذة بيضاء تأخذني
للأفق خارج أوراقي وأقلامي
ويُعبر بجرأة عن سيطرة الأرض، وممارساتها المخيفة، وسجنها لأبنائها في حالة شبيهة بالاستعباد وسلبهم حق الحرية:
عشرون عامًا سجين الخوف يُطفئني
صمتي وتشعلني بالشعر أيامي
عشرون عامًا بهذا المهد مُنطويًا
والهم داخل أفراحي وآلامي
أنا الذي استعبدتني الأرض ما عرفت
شكل الفضاء ولون الأفق أوهامي
وفي لفحة عاطفية رومانسية مدهشة، يقدم مقطوعة «نص» كلوحة موسيقية خارجة عن المألوف في الحب والغزل، قائًلا:
خارج النص أراكِ امرأة تمشي
وتخشاني
وتخشاني بأن أُدخلها النص
وأن أخلق منها فكرة خضراء
أو أجعل شخصيتها ضمن الشخوص
وعن حيرة الإنسان، يعبر الشاعر عن انفلات الأمل وضياع آخر فرصة في الإنقاذ من أمواج البحر الثائرة، قائلًا:
فلت الشراع وكان آخر ما معه
كيف الوصول وليس ثمة أشرعة
ومضى وراء الموج يصرخ في المدرى
لكن لا أحدًا هناك ليسمعه
لا أعرف الشاعر العاشور قبل هذا الديوان، وما عرفته أثناء القراءة أن القرية الريفية ولدت شاعرًا مُخلصًا لحدودها البسيطة، كما أنه حاملٌ على ظهره أفق الشاعر الممتد إلى اللانهاية من الإبداع، ففي هذا الديوان الأول، نبوءة نطقت بكلمتها الأولى وصار لزامًا عليها مواصلة المسير، فكل الأمنيات لهذه الطاقة الشعرية القادمة بثبات.
** **
رجاء البوعلي - أديبة سعودية