د.خالد بن عبدالعزيز الشريدة
المنهج الذي يشعرك بقيمتك وبمسؤوليتك أنت تجاه نفسك قبل أي أحد هو المنهج الرباني. ويتأكد هذا المعنى خصوصا في مرحلة الرشد، لأن الطفولة مرحلة تتأكد فيها التربية وحالة الرشد تتأكد فيها المسؤولية وحالة الشيخوخة يحتاج فيها الانسان إلى مزيد من جوانب التعبد التي تضفي على حياته مزيدا من الراحة.
الجانب الذي أكتب من أجله هذه المقالة هو التأكيد على مساحة العفو التي نحتاجها في حياتنا كي نكون أكثر عدلا واعتدالا وراحة في مسيرة حياتنا وفقا للهدي الذي هو مرجعنا جميعا.
لم أجد في حياتي أو من خلال ملاحظاتي وقراءاتي أعظم من خصلة (العفو) كدواء شاف للمشكلات النفسية والجسدية والعلائقية، ولو لم يكن الأمر كذلك لما أكد الله سبحانه في محكم كتابه أن (العفو والعدل والإحسان أقرب للتقوى والغفران) بقوله {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} بل إن الله ربط اجل اسمائه الحسنى بالعفو والصفح والمغفرة كما في التنزيل الحكيم {وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. والعفو عام والمغفرة أخص للتنازل عن الحق والصفح بدأ صفحة جديدة من الود.
والجانب المهم هو ان نستحضر هذه المنهجية في تربيتنا.. وتعليمنا.. وتعاملنا.. وإدارتنا لمسؤولياتنا.. لماذا؟
لأن الخطأ جبل عليه ابن آدم. فكما تخطئ أنت في حق نفسك وحق غيرك يمكن ان يكون لغيرك ذلك.
بل بدرجة أخف يمكن أن تقصِّر في حقك وحق غيرك ويمكن ان يكون ذلك من غيرك لك. فلا نتوقع ان تكون تصرفات الناس بالمقياس حسبما نريد.
وهذه الأخطاء المعتادة.. والجارية في طبيعة الحياة هي من قبيل (اللمم) الذي في الأصل أنه يعفى عنه ويتغافل لأنه جزء من تركيبتنا البشرية، (كل ابن آدم خطاء) وعليه (فالذي توقفه هنات البشر واخطاؤهم البسيطة يصعب عليه أن يسير بنجاح وارتياح في حياته).. ذلك ان الله عفا عن اللمم وهو مصر على ان يحاسب الناس عليه، وهنا يوقع نفسه في مشكلات نفسية و تقلبات في العلاقات ومصادمات تعزله عن الأنس بالحياة أكثر.
وإذا كان الله سبحانه يؤكد قاعدة في التعامل والتواصل وهي فوق مسألة اللمم دون حد إلا شيئا.. فإننا أحرى بأن نتأملها في واقع حياتنا على مختلف مستوياته وهذه القاعدة هي (أن الله يغفر الذنوب جميعاً) مع تأكيد الاستثناء {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} لكنه سبحانه {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ}.. وهنا السؤال: أين نحن من هذه التوجيهات في حياتنا؟.. وأين يجب ان لا نتجاوز في علاقاتنا وتعاملاتنا؟ وأين يجب ان تكون في مسائل اللم أو معاني (ما دون ذلك)؟.
الإشكالية أن بعضنا يجعل من اللمم كبيرة.. ومن الصغائر موبقات ومن الكبائر ربما (خروجا) من دائرة العفو والرحمة الربانية. وهكذا نفسية أو شخصية الذين حرموا (إن رحمة الله قريب من المحسنين). وأعظم الإحسان العفو عن بني الإنسان.
ويكفي البغضاء والشحناء خطورة انها تؤخر عرض أعمال المسلم على ربه حتى يصطلح مع أخيه كما في الحديث الشريف. ولأنها سبب كبير في الافتراء والبهتان والبغي.
المشكلة المستعصية هنا لدى (المؤاخذين) باللمم واشباهه.. أن هناك مساحة كبيرة تحكم آراءهم ومواقفهم مبنية على الظنون، بمعنى أنها لا تقف على قاعدة أكيدة من الحقائق.. وإنما مشاعر ووهم وشكوك لا ترقى أبدا إلى ان تكون حقائق (facts). وهنا استحضر وأقتطف جملة رائعة من حكم ابن تيمية بقوله: (وأن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة).
وكم عاقبنا بظنوننا الخاطئة أناسا أو اسقطنا حقوقهم أو تجاوزنا في تصرفاتنا معهم.. لا لشيء.. إلا لأننا نظن أنهم (يظنون) بنا غير الظن الذي يجب عليهم ان يظنوه بنا. قال الشافعي:
لما عفوت ولم أحقدْ على أحد
أرحتُ نفسي من هَمِّ العداواتِ
وحينما تزيد مساحة العفو فينا.. إنما تزيد مساحة الألفة والمحبة والمودة بيننا، وهذا كله من أجل وأعظم مقاصد ديننا.