م. بدر بن ناصر الحمدان
لا صوت يعلو على صدى خطوات أقدامي فوق مضمار تلك الحديقة الشتوية، في طقس مساء قارس البرودة، يغلفه رذاذ المطر، وتحتويه أطراف الليل التي لم تسمح لأحد بالمجيء لهذا المكان الذي بدا وكأنه قطعة مسروقة من جبل جليدي، حتى حياة الأشجار لم تقو على الصمود، ولفظت أنفاسها مبكراً قبل حلول الظلام، لا شيء هنا سواي، وبائع الذرة، ورجل يجلس على مقعد نحاسي في الجانب الآخر، بيده كتاب، بالرغم من كل تلك العتمة، فالفوانيس المضيئة بالكاد تكفي لرؤية ملامح ما حولك.
أنا هنا، لأني تعوّدت أن أكون في أماكن بها الحد الأدنى من الأشياء، بما في ذلك البشر، أعشق المساحات الخالية، والردهات الفارغة، والزوايا التي لا يسكنها أحد، أحاول أن أُشبع مجالي البصري باللاشيء، إذ لا مزيد من المفردات، ولا التفاصيل، حتى لو كانت جميلة، فكلما كان محيطك مُتَناهياً كنت أكثر قرباً من ذاتك، وأكثر قدرة على احتوائها، والتفرد بها، لذا يشدني هذا المكان لأنه لا يحتوي إلا على أشجار قليلة، ورصيف، وبقايا أعمدة، وشيء من حياة أناس كانوا هنا في الصباح، حيث يمكنني فيه أن أتحدث بِدونِ كلمات.
قرأت يوماً أن «الوراء بعيدٌ جداً، والأمام بعيدٌ جداً، ولا عودة، ولا وصول»، إذاً لا خيارات فائضة، وليس أمامي سوى أن أبقى هنا وأستمتع بكل هذا الصمت الذي يحيط بي، احتفاء بنفسي، التي خذلتها كثيراً، وتخليت عنها منذ زمن بعيد، وها أنا أعود إليها، بعد رحلة طويلة، وشاقة جداً، كانت مليئة بالأمل، ومثقلة بأحلام لم تتحقق، كنت حينها «لا أخاف سوى أن ألتفت وأجدُني في المكان نفسه بعد كُل هذا الركض»، وهذا ما حدث بالفعل، يا له من فراق كان بيني وبينها، لا أدري كيف قبلت أن أعود، بعد كل ذلك الغياب، عدت على أية حال..!
بعد ليلة غارقة بالأمس هممت بالرحيل، وسلكت نافذاً يمرّ على ذلك الرجل الجالس بعيداً لألقي عليه تحية الوداع، علّني أغرس بداخلة شيئاً من ذلك الصمت الذي يجمعنا، لم يبد أي اهتمام بتواجدي، عرفت أنه مجرد تمثال، نحته أحدهم، ليعوّض غياب الآخرين، وليشعرك بأن ثمة آخر معك، حتى لو كان منحوتاً.
وجدتني قسراً، أتعايش مع ذلك اللاشيء الذي يأخذني إلى حيث لا أريد، وبت أبحث عن أشياء لا أرغب بها، وأعبر جسوراً قبل أن أصلها، بحثاً عن مجرد حياة بداخلي، توارت عني، عندما كنت غير آبه بها، ورحلت عنها دون أن أشعر، وها أنا أعود لهذه الحديقة بحثاً عنها، في مساء كل يوم، أخشى أن أرحل عنها مرّة أخرى، ثم لا أجد سوى شتاء ليس بيني وبينه إلا معطف، وقبعة، وقفاز أسود.