صبار عابر العنزي
هناك حقيقة لا ينجو منها مخلوق ولا ينكرها أحد «الموت» فالكل سيرحل يومًا ما ويفارق هذه الدنيا، الصغير والكبير، الغني والفقير، الكل سيذوق كأسه، الجميع سيموت، ولو دامت لغيرنا لما وصلت إلينا، أليس أشرف الخلق مات؟ أليس الأنبياء والمرسلون، والأولياء والصالحون ماتوا؟
ولو كانت الدنيا تدوم لأهلها
لكان رسول الله حيًّا وباقيًا
فمن الحقائق التي حملها التاريخ، وسرت مسرى الأمثال قولهم العرب أمة عاطفة ولا مبالغة في ذلك فالشعر هو الذى حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم وقيل ليس هناك نعمة أوفى وأعظم من بيت ترفرف فيه روح المحبة والود والرحمة والتعاون والسلام والزوجة الصالحة هي سر عمار البيت، وهي اللي بفقدها يفقد البيت وهجه وضياءه...
وقد حفل الشعر العربي بالتغزل في الزوجات وتمجيدهن والثناء عليهن في حياتهن حتى إذا ما حل الفراق الأبدي فاضت عيون الشعراء بدموع الأسى والحزن العميق على زوجاتهن المفارقات...
وفي الجاهلية كان رثاء الزوجة والبكاء عليها ممنوعًا في عاداتهم وتقاليدهم، وكانوا يعتبرون ذلك أمرًا معيبًا، ورغم كل هذا فقد قام الشاعر جرير بكسر العادات والتقاليد في زمنه، وقال مرثيته التي أصبحت كالنار على العلم، وأصبح جرير بذلك أول شاعر يرثي زوجه، ولم يسبقه إلى ذلك أي من شعراء العصر الأموي أو العصور التي قبله حيث قال قصيدة «لولا الحياء لعادني استعبار» فيروى بأنّ جرير كان يحبها حبًا كبيرًا، فحزن وتألم من فراقها ألمًا شديدًا، ورثاها بقصيدة تعتبر من أصدق قصائد الرثاء:
لَولا الحَياءُ لَعادَني اِستِعبارُ
وَلَزُرتُ قَبرَكِ وَالحَبيبُ يُزارُ
وَلَقَد نَظَرتُ وَما تَمَتُّعُ نَظرَةٍ
في اللَحدِ حَيثُ تَمَكَّنَ المِحفارُ
وقد حظيت الزوجة في الشعر العباسي بالاحترام والتقدير من الزوج، وكان لها مكان مرموق عنده حيث يعبر عن حزنه الشديد لفقدان زوجته ولقد استعان الشعراء على ذلك معطيات البيئة العباسية في طريقة التعبير عن أحزانهم، فقد تمنى الشاعر افتداء زوجته بنفسه أو أن يمت معها وهذه المعاني التي دخلت في شعر رثاء الزوجة إحدى عناصر التجديد، وهناك شعراء يستبد بهم الحزن الشديد لموت الزوجة، مثل الشاعر مسلم بن الوليد الذي عزف عن كثير من متع الحياة ولذائذها، فأقسم عليه بعض إخوانه أن يشرب الخمر حتى ينسى مأساته، فرفض وأصر على الرفض، وقال:
بكاء وكأس كيف يتفقان
دعاني وإفـراطَ البكاء فإنني
غدت والثرى أولى بها من وليها
فلا حزن حتى تذرف العين ماءها
فقد الزوجة ورحيلها من أكثر التجارب المؤلمة التي قد يمر بها الفرد، يقول صاحب تجربة قد تشعر بالشلل التام وفقدان الحس، أو وكأنك في صدمة كبيرة، والعالم توقف كليًا من حولك وفاة من نحب يتسبب في تغيير كبير على حياتنا كلها، خاصة إذا كانت زوجتك هي صديقتك المفضلة، قد تشعر بأنك عالق في أحزانك، وتائه، وغير قادر على اتخاذ حتى أبسط القرارات...
لكن يظل عليك أن تعرف أن الجروح تلتئم بمرور الوقت، وأن الآلام تقل وتُشفي بدورها هذا لا يعني أن الأمر لن يترك ندبات على حياتك، ولكنك في النهاية سوف تكون قادرًا على مواصلة الحياة...
أخيرا شاعر العراق محمد مهدي الجواهري يرثي زوجته:
في ذمّة الله ما ألقَى ومَا أجد
أهذِه صخرةٌ أم هَذه كبدُ
خلعت ثوب اصطِبارٍ كان يَستُرني
وَبان كذب ادعائِي أنّني جَلد