عبدالرحمن الحبيب
قبل نحو ثلاثين عاماً من ظهور جائحة كورونا وصف المفكر زيجمونت باومان حياتنا اليومية بأنها أصبحت: سريعة، متدفقة، متقلبة، مُجازِفة، شكاكة.. غير محددة، بلا مركز، صعب التحكم بها ومن ثم صعبة التوقع، وأطلق عليها «الحداثة السائلة» باعتبارها طريقة في الحياة يتم خلالها إعادة تشكيل مستمرة للعالم بطرق مفاجئة وعالية المخاطرة. هذه الحداثة انتقلت من «الحداثة الصلبة» التي اعتبارها عقلانية، منظمة، قابلة للتوقع، ومستقرة نسبياً.
باومان توفي قبل الجائحة بثلاث سنوات، فما الذي فعلته هذه الجائحة في إعادة تشكيل العالم والقدرة على توقع المستقبل؟ كان عالَماً لا يمكن التنبؤ به والجائحة زادته تقلباً.. إنه زمن المفاجآت ونهاية زمن التوقعات المحسوبة.. «كان الناس يتوقون إلى شيء مثل الاستقرار. حتى أولئك الذين قبلوا أنهم لن يستعيدوا حياتهم السابقة أبدًا أملوا في حياة جديدة طبيعية. ومع ذلك.. حان الوقت لمواجهة عدم القدرة على التنبؤ بالعالم. النمط المتبع في باقي هذا العقد من القرن الحادي والعشرين ليس هو الروتين المعتاد الذي كان سائداً في سنوات ما قبل تفشي المرض، بل هو الاضطراب والحيرة التي سادت حقبة الجائحة. هذا هو الوضع الطبيعي الجديد». (مجلة الإيكونيميست).
لكن قبل ظهور الجائحة بعقود، كيف حصل الانتقال من الحداثة الصلبة إلى السائلة؟ التصادم العميق بين التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أنتج نظاماً عولمياً يتحفز عبر هوس اضطراري وإدماني على إعادة اكتشاف العالم، حسب وصف باومان الذي يقر أن تعريف الحداثة السائلة ينطوي على تناقض، لأن المصطلح يشير إلى ظروف عالمية غير ثابتة وفي حالة سيولة متدفقة ومتغيرة فكيف يمكن تعريفها؟ إنما هو يزعم أن توصيف أهم خصائص هذه الحداثة ممكن.
باومان شخَّص خمسة تطورات مترابطة أدت إلى هذا الانتقال. الأول، الدولة الوطنية لم تعد الهيكل الحامل الأساسي للمجتمع، فالحكومات الحالية صار لديها نفوذ أقل بكثير لتقرير الأحداث داخل وخارج البلد. الثاني، العولمة الرأسمالية فرخت الشركات متعددة الجنسية مسببة اللامركزية في سلطات البلدان. الثالث، التكنولوجيا الإلكترونية حيث الإنترنت هيأ وسائل الاتصال لتدفق المعلومات. الرابع، المجتمعات أصبحت منشغلة بالمخاطر الأمنية والأضرار المحتملة. الخامس، تنامي السفر والهجرة عبر العالم بشكل غير مسبوق.
إذا ربطنا هذا العامل الأخير بالجائحة، فسنلاحظ أن سهولة السفر حول العالم التي تؤدي إلى التقارب البشري بشكل لم يسبق له مثيل، تؤدي أيضاً إلى سرعة انتشار ونقل الأمراض, يقول الخبراء يمكنك أن تتوقع كل بضع سنوات حالة اندلاع جديدة لجائحة تؤدي إلى نوبات احترازية. بالنسبة لبومان كان الموضوع مختلفاً، فالهجرات الضخمة وتدفق البشر حول العالم هي عوامل تسهم في عدم التوقع واستمرار تدفق التغيرات للحياة اليومية. يقول بومان: «السكان في كل البلدان هذه الأيام أصبحوا مجموعة شتات».
أما إذا أخذنا العامل الثاني، فسنجد أن الحكومات أنفقت ما يقرب من 11 تريليون دولار في محاولة للتأكد من أن الضرر الناجم عن الفيروس كان عابرًا، حسب الإيكونيميست التي تذكر أن الحكومات «نجحت على نطاق واسع، لكن التحفيز المالي وسلاسل التوريد المتعثرة رفعت التضخم العالمي فوق 5%. القوة الواضحة للإنفاق بالعجز ستغير طريقة محاربة الركود. مع رفع أسعار الفائدة للتعامل مع التضخم، قد تجد البنوك المركزية نفسها في صراع مع الحكومات المثقلة بالديون. وسط موجة من الابتكار حول العملات المشفرة والعملات الرقمية للبنك المركزي والتكنولوجيا المالية، يمكن تحقيق العديد من النتائج». إلا أن النتيجة الأوضح هي استبعاد العودة إلى معتقدات الاقتصاد الكلي المريحة في التسعينيات.
بالنسبة لباومان، فعلى المستوى الاقتصادي صار شائعاً إعادة الهيكلة وتقليص عدد العاملين في الشركات خلال المنافسة المالية المحمومة بين الشركات في سوق العولمة. لذا، فإن الاستقرار الوظيفي في الحداثة الصلبة استُبدل بالتوظيف المؤقت المؤدي إلى كثرة التنقلات الوظيفية. عدم الاستقرار الوظيفي شكل علاقة وثيقة مع تحول دور وطبيعة التعليم. صار مطلوباً من الأفراد مواصلة تعليمهم - غالباً على حسابهم - في تخصصاتهم من أجل اللحاق بالتطورات المتجددة في مهنهم.
إذا أخذنا العامل الثالث فإن التحولات التكنولوجية الكبيرة تسارعت قبل كورونا، إلا أن هذا الأخير زاد من زخمها فأصبح التسوق عن بعد والعمل من المنزل جزءاً من الروتين اليومي. كانت التحولات التكنولوجية الكبيرة تستغرق قرونًا أو عقودًا لتنتشر في جميع أنحاء العالم، كما حصل للمطبعة والتلغراف، لكن التقنيات الجديدة تظهر وتنتشر في غضون سنوات. قبل 15 عامًا فقط، لم تكن الهواتف الذكية الحديثة موجودة. اليوم أكثر من نصف سكان هذا الكوكب يحملون واحدة. من غير المرجح أن يدوم أي رئيس عمل يعتقد أن صناعته محصنة ضد مثل هذه الديناميكية الجامحة (الإيكونيميست).
من الطبيعي أن يعترينا الحنين إلى العودة لنظام شبه مستقر وقابل للتوقع كما كان سابقاً، لكن يبدو ذلك أقرب للمستحيل.. ومع ذلك فهذا ليس بالأمر السيئ تماماً، فالتطورات التكنولوجية المتسارعة وغير المتوقعة يمكنها خدمة البشرية في الطب وصحة البيئة والزراعة وإنتاج الغذاء والنقل والاتصالات.. كما أن الخدمات عن بعد أرخص وأسهل، والكثير من الناس يحبون العمل من المنزل..