د. تنيضب الفايدي
ينبع مدينة عريقة عشقت البحر فعانقته، تزهو به، لم ترض باسم ينبع فقط، بل أضافته إلى اسمها لتصبح ينبع البحر، فهي درة من درره، إنها وفرعها الآخر ينبع النخل عبق الماضي، وروعة الحاضر، وأمل المستقبل بانضمام (ينبع الصناعية) إليها... إنها منبع الحب والعشق والجمال... هل رأت العين أجمل من شطآنها وأعذب من مفاتنها؟ كان العنوان (الحب: ينبع) ولكن تذكر الكاتب أن الحبيبة والمحبة والمحببة والمحبوبة وما تفرَّع عن ذلك خاص بالمدينة المنورة لا ينازعها في ذلك أي موقع وكان ذلك استجابة لدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، أما ينبع فهي امتداد لطيبة، ألم تتعطَّر أرضها بالخطوات المباركة للرسول صلى الله عليه وسلم واكتحلت جبالها برؤيته صلى الله عليه وسلم في غزوة العشيرة وما غزوة بواط عنها ببعيد، وينبع أصبحت مجموعة من ينابيع الخير، ينبع التاريخ أو ينبع النخل، هذا الوادي الذي يضم مجموعة من القرى التاريخية التي تكتنفها الجبال يُخيل إليك وأنت فيها أنك تخطو على بصمات التاريخ، وتستروح نسمات المجد، وخصوصاً أن لها دوراً مميزاً في صنعه، أما ينبع البحر فقد عاشت أقدار الحضارة الإسلامية، ولها تراث عريق، حيث المآثر المتعدِّدة سواء في أشكال مبانيها أو جوامعها، إضافة إلى جمال المشربيات (الرواشين) التي لا زالت تغطي بعض واجهات المنازل القديمة لتزيدها جمالاً.
كما اشتهرت بعلمائها وشعرائها وتعتبر ينبع ميناء المدينة المنورة بعد اندثار ميناء الجار، وقد تكون سابقة له تحققت لينبع عوامل الازدهار، حيث اتسعت اتساعاً كبيراً خلال الأعوام المتأخرة واتصلت مع ينبع الصناعية التي أمست مصدر أمل لكل أبناء بلادنا الغالية كما أصبحت العمق الاقتصادي الآمن من حيث الشركات العالمية التي غطت مساحات شاسعة، وعشرات المصانع التي تستخدم أحدث الآلات وتطبّق أرقى ما وصلت إليه أساليب التقنية، وتصدر تلك المصانع (نبض الحضارة) أو الطاقة إلى جميع أنحاء العالم.
وتمثِّل ينبع الصناعية روح التطور والتقدّم العلمي والتكنولوجي واستوعبت آلاف الشباب، وتهيأت لهم سبل المشاركة الحقيقية في بناء الوطن، وأتيحت لهم الفرصة لتطبيق مهارات تفكيرهم وتفجير طاقاتهم الإبداعية وتنميتها ضمن بيئة حضارية متقدِّمة.
كما واصلت ينبع البحر زحفها العمراني شرقاً حتى التقت مع جزئها الآخر ينبع النخل أو (كأن قد)، كما ترتبط بينبع عدة مراكز منها: ينبع وهي الحاضرة أو المركز الأساس ثم مركز رخو ويتبعه الأحمر وعشيش، وعدان ثم مركز نبط ويتبعه مصنع الإسمنت، النجف، نبط ومركز ينبع النخل ويتبعه تلعة نزا، ومركز شجوى ويتبعه ترعة، بئر سلمان، مركز المربع يتبعه سليلة جهينة، الفشغات، ومركز المرامية ويتبعه أميرة، ومركز الجديدة ويتبعه السليلة، والضليعة، والأبرق. أما العيص فقد كانت مركزاً يتبع ينبع البحر، وحالياً فقد أصبحت محافظة يتبعها عدة مراكز القراصة، البديع، المثلث.
وقد ذكر الكاتب هذه المراكز لأهميتها وأهمية كل موقع يتبعها وإذا ذكرت ينبع تبادر إلى الذهن جبل رضوى التي تقف بشموخ تشرف على هذا النمو المبارك لينابيعها الثلاثة لأنها - رضوى- جبل مبارك في أرض مباركة، وقد اتخذها كبار الشعراء رمزاً لخلود شعرهم فها هو الشاعر المعجز أبو الطيب المتنبي:
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى
أن الكواكب في التراب تغور
ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى
رضوى على أعناق الرجال تسير
وقال أبو العلا المعري عن رضوى من قصيدة مطلعها:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل
عفاف، واقدام، وحزم ونائل
إلى أن يقول:
بهم الليالي بعض ما أنا مضمر
ويثقل رضوى دون ما أنا حامل
وقال آخر:
أصبنا بما لو أن رضوى أصابها
لسهل من أركانها ما توعرا
وقال حسان بن ثابت -رضي الله عنه- مذكراً ومعتزاً بحاضره وماضيه:
لنا حاضر فعم وباد كأنه
شماريخ رضوى عزة وتكرما
وتتكرر شماريخ رضوى، حيث قال الشاعر:
سقوني وقالوا لاتغن ولو سقوا
شماريخ رضوى ما سقوني لغنت
وتضرب رضوى مثلاً: حيث تقول لعرب أبلغ من سحبان وائل، وأخطب من قس بن ساعدة وأكرم من حاتم الطائي، وأثقل من رضوى. كما أن (كثيراً الذي هام بـ (عزة) حباً وشوقاً كرر ذكر رضوى وأوديتها وسهولها، حيث كونت هذه المواقع فيه رقة الطبع وعذوبة الكلمات وبث قصائده وجداً وشوقاً على أطلال ديار الحبيبة (عزة) ويزيد ذلك جمالاً ما انبسط من رضوى سهولاً لتتصل بالرمال التي ابتردت بالأمواج المتكسرة على شاطئها مما يذكي العاطفة الصادقة في النفس، وينشر جواً من المرح والسرور خاصة في الليل مع البدر! إنها:
جواهر في منظر العين تشتهي
لتزدان أذرع وصدور
فيا من رأى بحراً وبدراً كلاهما
مع البيد في ليل الربيع سمير
هذه كلمات تناسب رقيقة صافية كصفاء بحر ينبع الهادئ، تأتيك الكلمات سهلة وأنت في لؤلؤ الخير حيث تأسرك بماضيها المشرف وحاضرها الزاهر ومستقبلها المشرق.
يا أهل ينبع بإخلاصكم رفعتم الوطن، وبأخلاقكم ملكتم القلوب.. ويا أهل ينبع..
أتأذنون لصب في زيارتكم
فعندكم شهوات السمع والبصر
منازل ينبع
عاش الكاتب صِباه في بعضها ويتذكّرها؛ لأنّ أطلالها تذكي العاطفة، وترقق الشعور، وترهف الحسّ، وتشتعل الألفاظ حباً وحنيناً، ويتدفق الخيال الذي تؤججه الذكريات وقد حنّت عواطفه إلى منازله وهو بعيدٌ عنها:
أحنُّ إلى تلك المنازِل كلما
غَدا طائرٌ في أيكةٍ يترنّمُ
بكيتُ من البَين المُشتِّ وإنني
صبورٌ على طعنِ القَنَا لو علمتُمُ