د. إبراهيم بن محمد الشتوي
يمثّل كتاب الكامل للمبرد أحد كتب الاختيارات الأدبية التي تحتوي على نماذج الشعر والنثر، وتميز عن غيره من كتب الاختيارات بشرحه للنماذج والتعليق عليها، سواء كان هذا التعليق لغوياً أو نحوياً أو بلاغياً نقدياً، أو ما يمكن أن نسميه بالبحث عن المعنى.
واتسمت هذه التعليقات بقيمتها الكبيرة حتى إنها مثلت في كثير منها قيمة تساوي قيمة النماذج الأصلية المعرفية بوجه عام، وتزيد عليها بالنسبة لتأليف الكتاب، وربما كانت سبباً في لفت انتباه الدارسين اللاحقين إليها وإلى ما تتمتع به من فائدة أدبية كبيرة.
ومن أهم هذه التعليقات ما سميته بـ»البحث عن المعنى»، وهو مما يدخل في شرح النماذج، أو هو طريقة من طرائق شرح النماذج، وتمثلت بأنها تقوم على استخراج المفردات الغامضة ثم شرحها شرحاً لغوياً وتقليبها للكشف عن الوجه اللغوي الذي جاءت فيه في السياق، ودلت على المعنى عن طريقه كقوله في شرح قول الشاعر:
إن تحت الأحجار حزماً وجوداً
وخصيماً ألد ذا معلاق
يقول: «ويروى مغلاق، فمن روى ذلك فتأويله أنه يغلق الحجة على الخصم، ومن قال: «ذا معلاق»، فإنما يريد أنه إذا علق خصماً لم يتخلص منه». وبالإضافة إلى النظر إلى الروايات المختلفة، فإن البحث عن الرابط الذي من خلاله تصبح اللفظة بهذا التركيب متوائمة مع السياق ودالة على المعنى المناسب، ف»معلاق» أو «مغلاق» ليست مألوفة بهذا التركيب بهذا السياق مما استدعى هذا البيان.
وكقوله أيضاً في شرح قول أوس بن حجر:
المخلف المتلف المرزأ لم
يمتع بضعف ولم يمت طبعا
يقول: الطبع هو أسوء الطمع. ثم يبحث عن الزاوية التي عن طريقها دلت هذه اللفظة على هذا المعنى، فيقول: «وأصله أن القلب يعتاد الخلة الدنيئة فتركبه كالحائل بينه وبين الفهم لقبح ما يظهر منه». ولا يكتفي بهذا بل يبحث عن الأصل الذي جاء منه هذا المعنى إلى القلب، فيقول: «وأصله في السيف وما أشبه، يقال: طبع السيف، إذا ركبه الصدأ يستر حديده».
فلدينا ثلاثة معان وتحولان لمعنى «طبع» حتى دلت على معناها في البيت وهو الطمع، فهي تستعمل في السيف إذا أصابه الصدأ، ثم انتقلت إلى القلب إذا تعود على الصفة القبيحة، ثم انتقلت إلى شدة الطمع أو البخل.
وليس الأمر متصلاً بدلالة اللفظة، بقدر ما هو متصل بالسياق أي بالاستعمال لأن المعنى يكاد يكون واحداً وهو التعبير عن التصاق شيء قبيح بشيء آخر حتى يكون جزءاً منه.
وهذه التقنية -إن صح التعبير- في شرح الشعر تظهر أيضاً في شرح النثر كذلك، كقوله في بيان معاني رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري حين ولي القضاء، وفيها «إياك والغلق». يقول: «ضيق الصدر وقلة الصبر يقال في سوء الخلق رجل غلق». ثم يبحث عن مصدر هذا المعنى الذي جاء منه هذا التعبير، فيقول: «وأصل ذلك من قولهم أغلق عليه أمره: إذا لم ينفسح»، فانغلاق الأمر على الإنسان هو الذي حول اللفظة إلى الدلالة على سوء الخلق، وذلك أنه غير قادر على التصرف إما للعجز أو لقلة الصبر.
ثم يذكر استعمالاً آخر للفظة لكنه هذه المرة لا يبين أهي الأصل الذي جاء منها استعمال «أغلق عليه أمره» أم أنها مأخوذة منها، فيقول: «ومن ذلك قولهم غلق الرهن إذا لم يوجد له تخلص»، وإن كان الذي يبدو لي أنه الأصل الذي جاء منه قولهم: «أغلق عليه أمره»، لأنها أولاً في شيء محدد دقيق، وهكذا تبدأ التعابير، ثم هي في أمر حسي أيضاً، وهذا يعني أن دلالة الغلق على سوء الخلق مر بتحولين: الأول من انغلاق الأمر على صاحبه، الذي تحول أيضاً من انغلاق الرهن على المرهون وعدم قدرته على الفكاك منه.
والسؤال الذي نختم به المقالة عن فائدة تتبع المعنى في بيان دلالته على موضعه في النموذج المشروح، وعن أثره في الربط بين الدلالة والتركيب الذي جاءت عليه اللفظة، وهو أمر يتجلى أثره في الربط بين المعاني الثلاثة واختزالها في الاستعمال الأخير لدى متلقي الشرح ثم النص، فقارئ الشرح يستصحب في ذهنه ترحل المعنى بين الاستعمالات المختلفة، وكأنها جزء منه وتلقي بظلالها عليه بصورة من الصور، فكلمة «طبع» لا تقتصر على معنى الطمع المعنوي ولكنها أيضاً تحمل ظلال الدرن المادي الذي يصيب السيف، وهو ما يجعلها أكثر أثراً في نفس المتلقي وأكثر ثراء دلالياً، وقد لا يكون ذلك كذلك، ولكنه نوع من الإيهام على المتلقي بكثافة اللفظة واكتنازها بالدلالة وهو ما يميز الشرح عن سواه من البيان ذي السياق الواحد. كما أنه يحمل قدراً من إقناع القارئ بصحة الاستعمال في سياقه الصحيح وبيان كيفية تطور الاستعمال حتى أصبح دالاً على ما يدل عليه في الموضع المشروح.