ارتبطت رمزية الليل في الشعر العربي منذ القدم عند الشعراء بالوحشة والبؤس وموارد الهموم، وحتى عند الإنسان العربي هي كذلك أيضاً.
عندما يهبط الليل تهبط معه الهموم الثقال والأحزان والمناجاة والتوجد، ونلاحظ ذلك جلياً في قصائد العرب، ولو أخذنا بداية من الشعر الجاهلي فإننا نجد ذلك عند امرئ القيس، حيث يقول في معلقته، واصفاً ليله الطويل الكئيب:
وليلٍ كمَوجِ البحر أرخى سدولَه
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلت له لمّا تمطّى بصُلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل:
ألا أيها الليل الطويلُ ألا انجلي
بصبح وما الإصباحُ منك بأمثلِ
فشبه الليل بموج البحر، وأنه جلب أنواع الهموم، وهنا صورة لثقل الليل على صدر الشاعر واستدعاء همومه وأحزانه وشدتها عليه، بل إنه تمطى ومد ظهره، وهذه كناية عن طوله…
وكذلك يقول حسان بن ثابت، رضي الله عنه، واصفاً ليله بالعسر والشدة وحضور الهم في حبكته:
تأوَّبَني لَيْلٌ بِيَثْرِبَ أعْسَرُ
وَهَمٌّ، إذا ما نَوّمَ النّاسُ، مُسْهِرُ
ويقول جرير:
أبِيتُ اللّيْلَ أرْقُبُ كُلَّ نَجْمٍ
مُكَابَدَة ً لِهَمّيَ وَاحْتِمَامَا
فصورة الليل حاضرة في الشعر العربي، ويتضح أن ساعاته أشد وطأة على قلب المهموم الذي يقضي ليله يكابد الهم والألم.
كان الليل لباساً، بعد نهار شاق قضاه الإنسان في صراع الحياة الذي لا ينتهي، ولا يسهر ساعات الليل إلا الحزانى. ولو تتبعنا في جميع العصور الأدبية، من الجاهلي إلى الحديث، لوجدنا غالبية الصور الشعرية لليل تدل على الهم والحزن! ويرتبط الليل كثيراً بالعشاق والمهمومين، وأنهم يسهرونه في المناجاة والتوجد.
ووجدتُ صورة الليل عند الشاعر «بدر شاكر السياب» كئيبة وقاتمة، وهو من شعراء العصر الحديث، إذ يشكو همه أثناء ساعات الليل، وتنضح أبياته حزناً وجعاً، وربما يعود ذلك إلى مرضه العضال، الذي حوَّل الليل عنده إلى هم وأسى، فعندما يحضر الليل يحضر الأنين عند السياب، يقول في إحدى قصائده:
كم ليلةٍ ناديت باسمك أيها الموت الرهيب
وودتُ لا طلع الشروقُ عليَّ إن مال الغروبُ
وبعد أن اختلفت الحياة وتبدل الزمن وطرأ كثير من المتغيرات على الحياة، هل يعد الليل كما كان؛ دالّاً على الوحشة والهموم، أم أن نفسية الإنسان والشاعر تغيرت؟
في عصرنا الحاضر أصبح غالبية الناس يتلذذون بسهر الليل ويقضون ساعاته في السمر والأنس، بل جلهم يؤجل سفره وخروجه إلى أن يهبط المساء.
هذا الموضوع يحتاج إلى استقراء، وخصوصاً من ناحية الصورة الشعرية لليل على امتداد التاريخ، ونحن نعلم أن الشعر خير راصد وشاهد للتاريخ والحياة الاجتماعية، وكذلك حتى في الجانب النفسي، بل ويتعدى ذلك إلى أنه ينقل إلينا صور تقلبات الزمن من الماضي، فهو سجل حافل بكل ما مر على الإنسان على هذه البسيطة من متغيرات.
لقد أصبح الليل في عصرنا الحاضر نهاراً مشعاً ومليئاً بالجلبة وازدحام الشوارع، فهل تختفي الصورة الموحشة لليل وتتحول إلى صورة أخرى نابضة بالحياة؟
ربما تكون الصورة باقية على حالها حتى عند شعراء هذا العصر، من باب التقليد والمحاكاة، لكن الهدف من طرح هذه الفكرة هو النظر بعمق إلى الحياة في العصور الماضية وما يمثله الليل في حياتهم كونه ستار ظلمة يهبط عليهم ويوقف الحركة ونسق الحياة، فانعكس ذلك على نفسية الشاعر والإنسان في ذلك الزمن، فأصبحت ساعاته مرتعاً لاستدعاء الأحزان والهموم.
وفي هذا الزمن أصبح الليل مختلفاً عنه في السابق، وأشبه بنهار مضيء، ولا تتوقف الحياة فيه، وانعكس ذلك على نفسية الإنسان، فهل تقلب صورة الليل ورمزيته في الشعر إلى وهج آخر من النبض، ويبتدع الشعراء صوراً حية لليل وهو غارق في الجمال والأنس؟
** **
- سليّم السوطاني