قبل أربعين سنة قال أبو تراب الظاهري في كلمة مرتجلة في الحفل الذي أقامته اثنينية عبدالمقصود خوجه لتكريمه (في عام 1404هـ الموافق 1984م) ما نصه: «كان من أسباب اشتهاري في بعض الأوساط الأدبيّة لدى المحقّقين أنّ عبدالسلام هارون أخرج كتاب الشعر والشعراء وعلّق عليه تعليقات طيّبة، ومن جملة ما أذكر -على بُعد العهد- أنّه ترجم للشاعر الأُقيشر، وعلّق على بيت من الشعر له، يقول فيه:
يقولونَ لي: إنْكَهْ شَرِبْتَ مُدامةً
فقلتُ لهم: لا بلْ أكلتُ سَفَرْجَلا
فعلّق عبدالسلام هارون على كلمة (انكه) بأن أصلها: (إنّك) فخففت النون ولحقتها هاء السكت (إنكه) وأتى بشواهد على تخفيف إنّ وهاء السكت، والمعنى عنده: (يقولون: إنّك شربتَ مُدامةً) فكتبتُ مقالة ونُشِرتْ، وذَكَرتُ فيها أنّ هذا خطأ، ولو راجع المحقق معجم لسان العرب لوجد هذا البيت في مادة (نكه) وأنّه فعل أمر، ومعناه: أَخْرِجْ نَفَسَك، أي: أخرجْ نكهتَك حتّى نَشُمّ أأنت شاربٌ خمرًا أم لا، فقال هارون: من هذا أبو تراب الذي كتب عني؟ فتوطّدت علاقتي به». انتهى.
فأقول: إنّ مراجعة هذه الهفوة في مظانها الأصيلة تبرّئ عبدالسلام هارون منها، وإنّما هي هفوة الشيخ أحمد شاكر، محقّق الشعر والشعراء لابن قتيبة، في الجزء الثاني ص 561 الطبعة الثانية، وأما عبدالسلام هارون فأكمل هذا الكتاب من ص 827 من أول ترجمة العباس بن الأحنف، رحمهم الله جميعًا.
وإليك بيان هذه المسألة: قال ابن قتيبة في الشعر والشعراء 2/ 560، 561: «وكان الأُقيشر صاحب شراب، فأخذه الأعوان بالكوفة، وقالوا: شارب خمر!! فقال: لستُ شاربَ خمر، ولكنى أكلتُ سَفَرجلا، وأنشأ يقول:
يقولونَ لي: إنْكَهْ شَرِبْتَ مُدامةً
فقلتُ لهم: لا بلْ أكلتُ سَفَرْجَلا»
فعلّق الشيخ أحمد شاكر على هذا البيت بقوله: «إنكه: أصلها (إنّك) فخفّف (إن) المشددة، وفى اللسان 16/171 عن الليث: وللعرب لغتان في إنّ المشددة: إحداهما التثقيل. والأخرى التخفيف. فأمّا من خفّف فإنّه يرفع بها، إلا أنّ ناسًا من أهل الحجاز يخفّفون وينصبون، على توهّم الثقيلة، وفيه عن الفراء: لم نسمع العرب تخفّف إنّ وتُعملها إلا مع المكنيّ؛ لأنّه لا يتبيّن فيه إعراب، فأمّا في الظاهر فلا، ولكن إذا خفّفوها رفعوا. وهنا خفّفها مع الضمير ثمّ ألحق به هاء السكت». انتهى.
وفَطِنَ لها المحقق القدير سيد صقر، فقال في نقده (الشعر والشعراء26): «حَسِبَ الشيخ أنّ فعل الأمر الذى هو (انكه) مكوّن من (إنّ) والضمير، وهاء السكت، وذهب يتمحّل العلل لإعمالها، فنقل عن اللسان، وليس الأمر كما حسب، فإن (انكه) فعل أمر من نَكَهَ يَنْكَهُ؛ أي: أخرجَ نَفَسَه، جاء فى اللسان 17/448 (ونَكَهَ هُوَ يَنكِهُ ويَنكَهُ: أخرج نَفَسَهُ إلى أَنفي. ونَكِهْتُه: شَمَمْتُ رِيحَهُ، واسْتَنْكَهْتُ الرجلَ فنَكَهَ في وَجْهِي يَنْكِهُ ويَنْكَهُ نَكْهًا إذا أمره بأن يَنْكَهَ ليعلمَ أَشارِبٌ هو أم غير شارب؛ قال ابنُ بَرِّيّ: شاهِدُهُ قولُ الأُقَيْشِر:
يقولونَ لي: إنْكَهْ شَرِبْتَ مُدامةً
فقلتُ لهم: لا بلْ أكلتُ سَفَرْجَلا»
فأقول: ولا أدري من السابق إلى التنبيه منهما أهو أبو تراب أم سيد صقر، ولكن أبا تراب سها في روايته الشفهية لبُعد العهد بالمسألة حين عزا هذا الوهم إلى عبدالسلام هارون، والصحيح أنّ الواهم أحمد شاكر محقق الشعر والشعراء في الجزء الثاني ص 561 ط الثانية، وإنما أكمل عبدالسلام هارون الكتاب من ص 827 من أول ترجمة العباس بن الأحنف.
ومن أسباب هذا الوهم أنّ أحمد شاكر -رحمه الله- رأى الهمزة مقطوعة في (إنكَهْ)، ولم ينكشف له أنّ قطعها هنا طارئ، لأجل الوزن، والأصل: انكَهْ، فعل أمر من نَكَهَ الفمَ ينكهه، من النَّكهة، وهي ريحُ الفم. قال الخليل في العين في مادة (ن ك هـ): نكهتُ فلانًا واستنكَهْتُهُ؛ أي: تشمَّمْتُ ريحَ فمه. والاسمُ: النَّكْهة. واستنكهتُ فلانًا فنكَهَ عليّ؛ أي: أوجدني ريحَ نَكْهَته، ونَكَهْتُ على فلان؛ أي: أَشْمَمْتُهُ نكْهتي. قال الشاعر:
نَكَهْتُ مُجالدًا فوجدتُ منهُ
كريحِ الكَلْبِ ماتَ حَدِيثَ عَهْدِ
وفي مسند عبدالرزاق الصنعاني: عن الثَّورِيّ، عن يحيى بن عبداللّه التَّيْميّ، عن أبي ماجدٍ الحنفيِّ، أنّ ابن مسعود، أتاهُ رَجُلٌ بابن أخيه وهو سَكْرَانُ، فقال: إنّي وَجدْتُ هذا سَكْرَانَ يا أبا عبدالرّحمن! فقال: تَرْتِرُوه ومَزْمِزُوه واسْتَنْكِهُوه، فتَرْتَرُوه ومَزْمَزُوه واسْتَنْكَهُوه، فوَجَدُوا منه رِيحَ شَراب، فأمَرَ به ابن مسعود إلى السِّجن.
وما أكثر الهفوات والزلات والعثرات والأوهام، وجلّ من لا يسهو ولا يغلط سبحانه، وما من عالم قديم أو معاصر إلا وله هفوة أو هفوات، ومن ذلك ما يرويه أبو الطيب اللغوي في طبقات النحويين واللغويبن عن ابن درستويه عن المبرد عن أبي عثمان المازني أنه قال: اجتمعتُ مع يعقوب بن السكيت عند محمد بن عبد الملك الزيّات، فقال محمد بن عبد الملك: سَلْ أبا يوسف عن مسألةٍ. فكرهتُ ذلك، وجعلتُ أتباطأُ وأدافعُ مخافةَ أن أُويِسَهُ؛ لأنه كان لي صديقًا، فألحَّ عليّ محمدُ بن عبد الملك، وقال: لِمَ لا تسأله؟ فاجتهدتُ في اختيار مسألةٍ سهلةٍ؛ لأُقاربَ يعقوبَ، فقلتُ له: ما وزنُ (نَكْتَلْ) من الفعل من قول الله عز وجل: {أرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} فقال: (نَفْعَلْ). فقلتُ له: إذن ينبغي أن يكونَ ماضيه (كَتَلَ)!! فقال: لا، ليس هذا وزنه، إنما هو (نَفْتَعِلْ). فقلتُ له: فنَفْتَعِل كم حرفًا هو؟ قال: خمسة أحرف. فقلتُ له: فَنَكْتَلْ كم حرفًا هو؟ قال: أربعة أحرف. قلتُ: فكيف تكون أربعةُ أحرفٍ بوزنِ خمسةٍ؟! فانقطع وخَجِل وسَكَتَ.. فقال محمد بن عبد الملك: فإنما تأخذ كلَّ شهرٍ ألفي درهم على أنّك لا تُحسِن ما وزنُ (نَكْتَلْ)! فلما خرجنا قال لي يعقوب: يا أبا عثمان، هل تدري ما صنعتَ بي؟ فقلتُ له: والله لقد قاربتُك جهدي، وما لي في هذا ذنب.
وهفوات العلماء كثيرة، لو جمعت كلها كانت في مجلدات، وكذلك هفوات كبار القوم من غير العلماء في مناحٍ شتّى من شؤون الحياة، ولغرس النعمة أبي الحسن محمد بن هلال الصابئ (480هـ) كتاب حافل، عنوانه: (الهفوات النادرة) حققه الدكتور صالح الأشتر، ذكر فيه هفواتٍ متنوعةً لعِلْية القوم؛ كالخلفاء والوزراء والقادة وكبار الكتاب وطائفة من أهل العلم.
** **
- د. عبدالرزاق الصاعدي