عمت شهرة (صالون العقاد) الثقافي بالقاهرة الاقطار العربية وطغى بسمعته وصيته على بقية الصوالين الأخرى التي كانت تزخر بها مصر وأدباءها البارزين آنذاك أي في النصف الأول من القرن العشرين أمثال صالون مي زيادة، وصالون طه حسين، وصالون الأميرة نازلي، وندوة محمود شاكر، وصالون د. عبدالحميد إبراهيم، وصالون د. أحمد تيمو، وصالون عز الدين اسماعيل، وندوة د. إبراهيم ناجي بعيادته في حي شبرا، وصالون د. محمد حسن عبدالله وغيرها الكثير والكثير من الصوالين التي كان لكل منها أدبياتها وطابعها الخاص في النقد والأدب والثقافة العامة.
ولعل السر وراء تلك السمعة والمكانة التي احتلها (صالون العقاد) تقبع في شخصية صاحب الصالون عباس محمود العقاد الفريدة وما يمتاز به صفات خلقية وخلقية ومن موسوعية ثقافية شاملة وشجاعة في إبدا الرأي والنقد الجريء والذي يقول عنه تلميذه النجيب الأديب الراحل انيس منصور: (يبدو العقاد شخصية درامية استثنائية، فهو انطلاقاً من حجمه العملاق، بكل معنى الكلمة، وانطلاقاً من كونه الوحيد- تقريباً - بين كافة مفكري العصر الليبرالي في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، الذي عرف بكونه عصامياً علم نفسه بنفسه، وانطلاقاً من شخصيته ذات المراس الصعب وعمق الثقافة الحيوية التي كونها لنفسه، وأخيراً، انطلاقاً من شخصيته القيادية التي جعلت له عدداً كبيراً من التلامذة والحواريين، سواء أكان ذلك في الأدب، أو في الفكر أو في الفلسفة أو في السياسة، انتهى الأمر به لأن يصبح أشبه بالأسطورة، الأسطورة التي تصنع شخصية العقاد الحقيقية وتختفي خلفها)(1).
وفي هذا الصالون العقادي الذي كان يعقد بمنزله بمصر الجديدة اسبوعياً في الفترة الصباحية من يوم الجمعة ويؤمه عدد كبير من المفكرين والأدباء والمثقفين المصريين والعرب والاجانب وطلاب الجامعات تدور الاحاديث في مختلف المجالات الفكرية والاجتماعية والعلمية والسياسية ويكون محورها الأساس بالطبع فارسها ورائدها الأول عباس محمود العقاد الذي يتجاذب الحديث معهم فيما جد واستجد من أخبار وأمور العالم، ويرد ويعلق على كل التساؤلات وما يثار من نقاشات وحوارات والكل له اذان صاغية، بل كان الكثير منهم حريص على تدوين ما يتفوه به هذا العملاق الموسوعي من افكار ورؤى ومعلومات في نوت صغيرة أو وريقات كانوا يحملونها معهم.
ولذلك كان هذا الصالون المنفتح على العالم يمثل صورة حقيقية مضيئة على عمق الثقافة المصرية وتوهجها وما تشهده من ازدهار ثقافي كبير في شتى النواحي، وكان خير من نقل وصورما يدور في هذا الصالون من امثلة هذه النقاشات والمطارحات الفكرية والفلسفية الأديب والكاتب الراحل أنيس منصور في كتابه (في صالون العقاد كانت لنا أيام).
وكما كان هذا الصالون مقصداً للأدباء المصريين امثال صلاح طاهر، وعبدالرحمن صدقي وزكي نجيب محفوظ، وطاهر الجبلاوي، وكامل الكيلاني، وحبيب الزحلاوي، وعلي ادهم، ووديع فلسطين وغيرهم فقد كان مقصداً لمعظم الأدباء العرب وكان للسعوديين منهم الحظ الأوفر في ارتياده سواء من كان منهم مقيماً بالقاهرة اقامة دائمة أو من قدم للعمل أو الدراسة، أو الاستشفاء أو الاصطياف والسياحة ،أومن اولئك الذين لا ينقطعون عن مصر وخاصة أدباء الرعيل الأول وجيل الأدباء الشباب من بعدهم.
ولم تكن مشاركة الأدباء السعوديين في صالون العقاد وغيرها من الندوات واللقاءات الفكرية والأدبية للمباهاة والمفاخرة وإنما كانت نتيجة رغبة ملحة وجامحة في توسيع نطاق المعرفة والثقافة وتعزيز مكانة الأدب السعودي واعادته إلى عهوده الزاهرة بعدما اصابه من فترة ركود وخمول، والاستزادة من معين العلم والثقافة الخصب في كل الميادين، وتأكيد قدرة الأدباء السعوديون على الوقوف بشموخ امام نظرائهم من أدباء مصر ومشاركتهم الهم الأدبي والثقافي العام، الى جانب حرص البعض منهم على طبع ونشر إنتاجه وابداعاته في مصر التي كانت ومازالت مصدر إشعاع فكري وحضاري للعالم وكانت الصدر الرحب لكل أديب ناشئ يطرق ابوابها طمعاً في تعضيد موهبته والاحتكاك بكبار عمالقتها ومفكريها، والنهل من مدارسها الإبداعية المتعددة.
وكان في مقدمة الأدباء السعوديين الحريصين على حضور صالون العقاد في حياته كل من الأديب أحمد عبدالغفور عطار رحمه الله الذي تربطه بالعقاد صلة صداقة ومعرفة قديمة ومشاركة في التأليف، فالعطار اشترك مع العقاد في تأليف كتاب (الشيوعية والإسلام)، كما كتب العقاد مقدمة تحقيق العطار لكتاب الصحاح لإسماعيل بن حماد الجوهري إلى جانب تقديم الأمير فهد بن عبدالعزيز رحمه الله وزير الداخلية آنذاك (الملك فيما بعد)، وكذلك الأديب الشاعر ورجل الصحافة صاحب جريدة (الحرم) التي اسسها بالقاهرة ورئيس تحرير جريدة أم القرى والبلاد السعودية ورئيس التشريفات الملكية في عهد الملك عبدالعزيز الأستاذ فؤاد شاكر والذي تربطه هو الآخر علاقة صداقة قوية بالعقاد، ومنهم الأديب الشاعر حمزة شحاتة، والأديب الشاعر إبراهيم أمين فودة، والأديب المؤرخ عبدالقدوس الانصاري ،والأديب محمد سعيد العامودي، والأديب عبدالعزيز الربيع، والأديب أحمد المبارك، والأديب عبدالفتاح ابو مدين، والأديب الصحفي علي حافظ ،وكان يحضر الصالون ايضاً عدد من السعوديين المقيمين بالقاهرة أو المترددين عليها من وقت لآخر، إلى جانب الأدباء السعوديين من رواد الصوالين الأدبية السعودية بالقاهرة امثال صالون الأستاذ محمد سرور الصبان وزير المالية الاسبق ،وصالون الأستاذ الكبير عبدالله عبدالجبار في شقته بحي الجيزة، والأديب الأستاذ إبراهيم أمين فوده وصالونه الأدبي المشهور الذي كان يقام في عوامته على النيل كل يوم احد، وأثنينية الأستاذ عبدالحميد حامد مشخص، وندوة السيد أمين مدني الأدبية والتاريخية بمصر الجديدة ،وصالون ومركاز الأستاذ أحمد ملائكة وغيرهم الكثير، ومن الصوالين الأدبية والثقافية السعودية الحديثة بالقاهرة والتي لاتزال قائمة وتمارس عطائها بصفة منتظمة حتى الآن صالون الدكتور غازي زين عوض الله العربي، وصالون الدكتور عبدالمحسن القحطاني ومركزه للدراسات الثقافية بالقاهرة.
وكان للأدباء السعوديين حضورهم ومشاركتهم الفاعلة في صالون العقاد فهذا الأديب الراحل عبدالفتاح أبو مدين رحمه الله واحد رواد هذا الصالون يوجه له السؤال ويقول : لماذا لم ينصف أدباء مصر المتنبي عدا العقاد والزيات ؟ حتى طه حسين طعن في نسب المتنبي تبعاً لرأى محمد محمود شاكر بحجه واهية كون المتنبي لم يرث اباه؟ فقال العقاد : من الظلم أن يظلم المتنبي شاعر العربية المفكر، ومقاييس هؤلاء النقاد الخاطئة جنت على الأدب كثيراً في كل العصور.
ويصف أبو مدين العقاد في صالونه فيقول : وعند العقاد قوة ظاهرة في نفسه وعقله، فهو قد ظل ساعتين ونصفا يتحدث من غير انقطاع، يسأل في شتى العلوم والفنون والآداب، ويرد على كل سؤال من غير إن يحضر الرد أو يفكر حتى مجرد التفكير فيه، وإنما يرد على أي سؤال بمجرد أن ينتهى السائل فورا.(2)
ويقول الناقد المصري الدكتور محمود رجب البيومي أنه شاهد موقفاً طريفاً في احدى ندوات العقاد الأسبوعية جلاه الأستاذ العطار حين قال: وفي احدى ندوات العقاد حضر الأستاذ الانصاري (ويقصد به عبدالقدوس الانصاري) وثار جدل عنيف بينهما وكان العنف في كلام الشيخ الانصاري واللطف في كلام الأستاذ العقاد رحمهما الله، ثم غادر ابو نبيه الانصاري الندوة، وعجب الحاضرون من لطف العقاد إذ يعرفونه شديد الوطأة على من يجادلونه، وسألوه فقال لهم هذا الانصاري ومن العقاد في جانب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أكرم الانصار، وإذا أكرمهم رسول الله أفلا يكرمهم العقاد وهل بلغ العقاد سوء الأدب حتى لا يكرم انصارياً لفضله وعلمه وأدبه وجواره لرسول الله) (3).
وذكر المربي والأديب الراحل الأستاذ عبدالله بغدادي مدير التعليم الاسبق بمكة المكرمة لكاتب هذه السطور في حوار صحفي سابق: (أنه اثناء دراسته بالقاهرة كان يسكن بالقرب من الأزهر ويذهب للحلاقة في احد محلات الحلاقة ليكتشف أن العقاد يأتي إلى هذا الحلاق اسبوعياً وفي احد المرات اخبره بانه من عشاق الشعر والأدب وانه سمع عن صالونه الأدبي فدعاه العقاد للحضور في يوم الجمعة وكان ان حضر عدداً من هذه الجلسات الباذخة بفنون الأدب والحوار الأدبي الرفيع)(4).
وبعد رحيل عملاق الفكر والأدب العربي عباس محمود العقاد رحمه الله سعى ابن شقيقه الأديب الأستاذ عامر العقاد رحمه الله وبعض تلاميذه لإحياء ذكراه والاحتفال بعيد ميلاده بإقامة صالونه الثقافي بداره سنوياً تكريما له ولسيرته العطرة ومن خلال نخبة من محبيه وانصار مدرسته الأدبية من الأدباء والمفكرين المصريين والعرب، وكان يقام كل عام ويكرم به عدد من الأدباء البارزين، وكان ممن استضافهم الصالون بعضاً من ادباء المملكة العربية السعودية وفي طليعتهم الأديب محمد حسن عواد رحمه الله وهو من اشد المعجبين والمتأثرين بالعقاد والقيت في هذه الندوة عدد من الكلمات الترحيبية به، ثم القى الأديب محمد رستم مصطفى ابن شقيقة عباس العقاد قصيدة ترحيبية في تحية الشاعر محمد حسن عواد ومما قال فيها:
(عواد) لم يبلغ مقامك شاعر
مهما تسامق او علا في الشأن
دبجت من لغة النبي روائعاً
وبها قطعت جهيزة الاقران
قدمت من شهد القريض ظواهراً
وبها خلدت على مدى الازمان
كما استضاف الصالون ايضاً المؤرخ والأديب الراحل الأستاذ عبدالله بن خميس رحمه الله في احدى زياراته للقاهرة، وفي يوم حضوره بادره الشاعر المصري العوض الوكيل الترحيب به بأبيات شعرية قال فيها:
مرحبا (بابن خميس) في الندى
الصديق الحق والخدين الوفي
(ندوة العقاد) قالت مرحبا
بالأديب الالمعي العبقري
سيبويه العصر في النحو وفي
الشعر قد ادرك شاو البحتري
عوضي الشعر الا انه لم يقل
هجواً كهجو العوضي
وعندما اعطيت الكلمة للأستاذ ابن خميس أشاد بالعقاد ودعوته الفكرية واثر تلك الدعوة على أدباء هذه البلاد المقدسة، ثم رد ابن خميس على الشاعر العوض الوكيل بتحية شعرية مماثلة ومما قال فيها:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالمحيي
عشت يا خدني وصنوي وصفيي
أنت أولى بالذي قلدتني
يا ربيب الفضل والأمس الحمي
أين مني شعرك الفذ الذي
قد تسامى بالبيان العبقري
ندوة (العقاد) يا خير ندى
في المعالي والخلود الأبدي
سنها رب البيان العربي
لسرى من سرى في سري(5)
لقد اسهم صالون العقاد وغيره من هذه الصالونات والندوات الأدبية والثقافية في خارج المملكة في تقوية الصلات بين الأدباء والمثقفين في البلدين الشقيقين مصر والسعودية، وكانت احد العوامل المحفزة على الابداع والعطاء والتميز، وجعلت الالفة والمحبة والتقارب لها فضاءً شاسعاً ووطناً ممتد اً، والتنافس الثقافي هو شعارها الكبير، فإلى روح العقاد المحلقة في الأعالي، وصالونه الثقافي المميز نزف هذه التحية من أرض السعودية.
ــــــــــــــــ
(1) انيس منصور - في صالون العقاد كانت لنا ايام - دار الشروق.
(2) جريدة الرائد -غرة ربيع الثاني -1381هـ.
(3) مجلة المنهل العدد 477 - المجلد 51 - جمادى الاخرة 1410هـ يناير 1990م.
(4) مجلة اليمامة العدد (1794)- السبت غرة محرم 1425هـ.
(5) لهيب الصدق -عامر العقاد - المكتبة العصرية بيروت 1409هـ.
** **
- مشعل الحارثي