الكتابة عن رجل كالبحر زاخر بالمعارف والخبرات متعدد المواهب والاهتمامات أمر ليس بالسهل، فحياته الإبداعية متعددة الأوجه، كتب المقالة الاجتماعية والتاريخية والأدبية، كتب القصة والمسرحية، نظم القصيدة العمودية، نشر في الصحف والمجلات المحلية والعربية، خاض تجربة التحقيق، فقدم للقارئ العربي ديوان الشاعر جعفر الخطي في مجلدين، كما حقق ما كتبه الرحالة عن المنطقة.
حياته العملية والوظيفية لا تقل تنوعاً وتعدداً استهلها بالأعمال الشاقة، حيث عمل حمّالي، عامل نظافة، موظف بسيط في مستودع المالية، ثم كاتب دوريات في مرفأ القطيف، وتدرج على السلم الوظيفي ليصبح محاسبا، فمدير الشئون المالية، ثم مديرا لإدارة المشتريات والمناقصات، وأنهى سنوات خدمته مديراً لبلدية القديح، وبلدية عنك.
أخشى أن تأخذني الكتابة عن السيد عدنان إلى مناح لا يسمح المجال المحدود التطرق لها، لذا سأقتصر في حديثي على تعلمه اللغة قراءة وكتابة، خاصة أنني أستعد للكتابة عنه بشكل موسع في عمل مستقل، وقد شرعت فعلا في جمع مادة الكتاب إذ اخترته بطلا للجزء الثالث من ثلاثية أنجزت منها جزأها الأول والثاني.
كلما استحضرت هذا العلم برز أمامي درب الآلام الذي سلكه فأتساءل مندهشا: كيف تغلب ذاك الصبي على كل تلك المشاق، وخرج منها هذا الرجل المدهش المتعلم المثقف الكاتب والمحقق والمؤرخ والشاعر؟ من يعرف سيرته يعرف أنه ابن المعاناة القاسية فعلا، وأن المعاناة هي التي شكلته حقاً، وكأنه بمسيرته يؤكد ما قاله مكسيم غوركي: (عندما يكون كل شيء سهلاً يصبح الإنسان غبياً). قدم بمنجزه المثل الحي بأن الصعوبات هي التي تخلق الإنسان. الحياة المرة القاسية صنعت غوركي يتيم الأب، وديكنز الذي حرم من رعاية الأب بسجن والده سجنا مؤبدا، والسيد عدنان بفقد الأم، فشقاء الطفولة والبؤس واليتم والإصرار على إثبات وجودهم هو ما يوحّد الثلاثة، وما صنع منهم مبدعين.
بدأ السيد عدنان رحلة التعلم صدفة، إذ دعاه ابن الجيران أن يرافقه إلى مكتب معلّم القرآن فتبعه، وهكذا وجد نفسه مع الأطفال الذين يتعلمون تلاوة القرآن، أصبح واحداً منهم، شرع في تعلم القرآن، لكنه اضطر للانصراف عن مهمة التعلّم التي تعلق بها، إذ وجد نفسه في العاشرة من عمره يتيماً وحيداً ومجبراً على مواجهة صعوبات الحياة، اضطر ذلك الطفل الغض أن ينخرط في سلك العمل العضلي المضني من أجل تأمين ما يقيم الأود.
الحديث عن تعلم اللغة يقودنا للحديث عن طفولته البائسة طفولة تشرد وضياع بسب اليتم المبكر، حيث فقد والدته، وتزوج والده، فاضطر الطفل أن يخلي الدار التي كانت تؤويه مع والدته، ليتشرد حين يحتاج الجسد المنهك من الكدح المضني أن يستريح ليلا يلوذ بمسجد بحثا عن الدفء بين جدرانه من برد قارس هذا إذا كان الفصل شتاء، وفي الصيف حين يشتد الحر ويقسو يتسلّق ليلاً التلال طمعاً في نسمة طلقة لا يعثر على مثلها إلا هناك في فضاء البر.
أجبره اليتم أن ينصرف عن تعلم القرآن قبل أن يتعلّم مبادئ الخط، لكنه تعلّم رسم الحروف من لغة الأردو التي تكتب بالحروف العربية من دفاتر أبناء موظفي سكة الحديد من الباكستان. كان يحضرها عمه الذي يعمل هناك، فانصب اهتمام الطفل على محاكاة رسم تلك الحروف دون أن يفهم معاني تلك السطور حتى أتقن الخط، وتمكن من كتابة رسائل أهل القرية للحجاج ووثائق المبايعات والوصايا وعقود الزواج. لم يكن مبالغا حين أدخل تعلمه الكتابة في إطار الغرائب.
ما يعنينا في هذه العجالة تعلمه اللغة العربية وإتقانها، سأحاول الإجابة على سؤال كيف تمكن ذلك الطفل اليتم المشرد الذي لم يدخل مدرسة نظامية، ولم يتلق فنون اللغة على يد معلم مختص أن يتمكن من قواعدها الصرف والنحو والبلاغة والإملاء، ويصبح قادراً، بل مجيداً في الكتابة نثراً وشعراً بلغة سليمة وبليغة وفي سن مبكرة. يجدر بالذكر أنه لم يكتف باللغة العربية، بل تعلم الإنجليزية وأتقنها في ظروف خاصة، لسنا في صدد التطرق لها الآن.
هل يصح لنا أن نعزو تمكنه من اللغة لمقدرة خاصة يمتلكها، أم هي مكابرة وجلد منه لامتلاك وسيلة يعبر بها بشكل متقن سليم وبليغ يؤهله أن يحجز له مكانة في الصدارة بين أدباء منطقته؟
عندما وجهته له السؤال الذي حملته له حين قررت المشاركة في ملف الملحق الثقافي في جريدة الجزيرة. كيف تعلمت اللغة؟ أجاب تعلمت قواعد اللغة من خلال النقاشات التي تدور حول اللغة السليمة في المجالس بين أفراد من الوسط المتعلم، بالإضافة للقراءة التي استهوته منذ الطفولة، والتي لم يحل انصرافه للعمل الشاق في سن مبكر، ولم تعقه عينه العليلة المصابة بالترخوما عن قضاء الساعات الطوال في القراءة المتواصلة.
كان يصطحبه عمه الذي يعمل في أرامكو للعلاج في مشفى الشركة بالظهران، بعد تلقي العلاج يتوجه إلى البسطات في سوق الظهران بحثا عن كتاب، يشتري المتاح من كتب التراث ألف ليلة وليلة، والزير سالم، ليلى والمجنون، وتغريبة بني هلال، وعنترة وعبلة، ثم ينكب على قراءتها حتى تحين عودته إلى القطيف.
قرأ تلك المؤلفات في تلك السن المبكرة ربما للمتعة والتسلية، ليس بهدف التثقيف الذاتي، الذي اعتمده أساسا ومنهجا لتكوين شخصيته حين وعى أن للإنسان دورا في الحياة، وقد عرفنا السيد عدنان الشخص الطموح دائما للكمال، أراد أن يقوم بدوره على الوجه الأكمل، ولن يكون كفؤا للقيام بذلك الدور إلا إذا نال حظاً من العلم والثقافة، ولا فرصة أن يتلقى العلم في مدرسة أو جامعة، ما أمامه إلا جامعة الحياة، التي تخرج فيها من قبله جوركي وديكنز.
خدمه الحظ لاحقاً بالتعرّف على ثلاثة من الشباب المثقف من آل فارس مولعين بقراءة الكتب الحديثة من مؤلفات طه حسين والعقاد والمازني وجورجي زيدان وكرم ملحم كرم وغيرهم، فاندفع للقراءة الجادة بنهم المتعطش للمتعة والمعرفة، لم يكتف بذلك، بل استهوته مجاراة تلك الأعمال.
اتسعت دائرة الأصدقاء المثقفين بتعرفه على أصدقاء جدد ممن ينظمون الشعر لم يتردد أن يطرق هذا المجال محاكيا رفقته، ونظم فأجاد، ليس هذا فقط، بل غدا مؤثرا في الحياة الأدبية والثقافية المحلية، فهو مؤرخها وموثقها ونافضا الغبار عن المنسي من إبداع أبنائها بالبحث الدؤوب والتقصي الجاد، ثم إعدادها ونشرها، فأخرج إلى النور مؤلفات في الشعر والنثر مقضي عليها بالإهمال والنسيان تجاوز عددها خمسة عشر كتاباً، ومازال يعمل دون كلل ولا ملل، وما سلسلة مقالاته الأخيرة عن أعلام القطيف التي ينشرها إلا امتداد لذلك الوفاء والاهتمام.
أسس مع لفيف من المهتمين بالشأن الأدبي والثقافي مجلة الواحة وأسندت إليه مهمة مدير تحريرها. سخر قلمه وإمكاناته للكتابة عن قضايا واحة القطيف، فحين كتب المقالة لم يكتبها ترفا، ولا لإثبات حضور، ولا ليطرح فيها شأنا خاصا، بل لينتقد خللا، أو يطالب بتحسن وتطوير وضع، أو يقدم مطلباً، لقد كان يحمل هموم أفراد مجتمعه، يدفعه حافز الإصلاح والتطوير. كان متماهياً مع قضايا وهموم مجتمعه. بذل كل ما في وسعه، خاصة في النشاط الثقافي والاجتماعي كتأسيس الرابطة الثقافية، وإنشاء المكتبة الأهلية، إصدار مجلة شهرية باسم القطيف وتوقفت.
وحين أشدت بما قدمه السيد لواحته وأهلها، عقّب صديقه الدكتور حسن البريكي مازحاً:
- صاحبك مدان لواحة القطيف ببقائه على قيد الحياة، فلو لم يكن في هذا الواحة الظليلة المعطاء إما أدركه الموت جائعا، أو أصبح لصا محترفا. لقد قدمت الواحة له ما يقيم أوده من ثمار نخيلها وأشجار بساتينها، وماء عيونها، وسمك بحرها، حتى تألقه الأدبي والثقافي يعود لمجالس أبنائها.
** **
- عبدالله محمد العبد المحسن