عرفت أخي عدنان بن السيد محمد العوامي في سبعينيات القرن الميلادي الماضي، وتابعت ما نشر له ابتداءً في جريدة «أخبار الظهران» ثم في صحفنا المحلية الأخرى حول بعض المشاكل الاجتماعية، وهموم الناس العامة، حتى بدأت قصائده في الظهور في بعض هذه الصحف، وهي مسكونة بهم إنساني ووطني عميق ولافت، وقد زينتها لغة رصينة، وصور ناصعة تلج إلى مسارب الشعور لدى المتلقي، ليجدها قريبة إلى أحلامه وطموحاته لحياة أكثر طمأنينة وسعادة، فهو شاعر مطبوع، أسهم وشعراء جيله في إنقاذ الشعر العربي في هذا الجزء من العالم، من تقليديته وانغماسه في قوالب الفجاجة والنظم والتكرار، وحينما تعرفت عليه أكثر، وجدت في إهابه شخصية قريبة إلى النفس، بما يملك من التواضع، ولين الجانب، وعفة اللسان، وسعة الاطلاع، وحضور البديهة، والميل إلى الاستشهاد بالشعر والمواقف الطريفة، وأحياناً النكتة الساخرة الناقدة، إلى جانب القدرة على كسب صداقة الآخرين، وهي مهارة لا يملكها إلا الواثقون من أنفسهم، لذلك هو يتمتع بدائرة معارف واسعة من الأصدقاء في كل أرجاء الوطن والخليج، وليس ذلك بفضل سمعته الأدبية فقط، ولكن لما انطوت عليه نفسه من أخلاق نبيلة، ومواقف وطنية معتدلة، وثقافة موسوعية كبيرة، لا بد أنه ورثها من أسرته التي تتمتع بمكانة دينية وعلمية مرموقة في المثلث الثقافي بأضلاعه القائمة بين القطيف والأحساء والبحرين، حتى طبقت شهرة بعض أعلامه الآفاق، ومنهم أديبنا الشاعر والباحث عدنان بن السيد محمد العوامي.
ورغم ما اتسمت به حياته من معاناة في بدايتها، فإنه وبعصاميته الفريدة استطاع أن يتجاوز كل العقبات، ويبرز بين أقرانه كاتباً جاداً وشاعراً مجيداً وباحثاً جلداً نذر نفسه لخدمة الثقافة، بعد أن أخذ على عاتقة مهمة بعث ما تيسر له من تحقيق الأعمال الشعرية، والإعداد والإشراف والمتابعة لإحياء عدد من المؤلفات، مما كاد أن يندثر من نتاج أدبي في القطيف، حري بأن ينسب الفضل في إحيائه إلى حرص العوامي، ليرى ذلك التراث النور على يديه، ومن ذلك تحقيقه لديوان (أبي البحر الشيخ جعفر الخطي) وهو جهد كبير، وطبع في جزأين، ولخص الاستاذ محمد رضي الشماسي هذا الجهد في كلمة «تصدير» الكتاب ومنها قوله: (الاستاذ العوامي أقدم على عمل أعتدُّهُ عملاً جهادياً في سبيل العلم، إذ وفر نفسه على دراسة وتحقيق ديوان أبي البحر الخطي، شاعر عصره في منطقة الخليج العربي، أو ما كان يعرف قديماً بالبحرين، دخل في هذا العمل بجلد الباحث، وإحاطة المؤرخ، وفكر الأديب، وذوق الشاعر، فكان من جماع هاتيك السمات هذا المخض الكبير، حتى بلغ في تحقيق الديوان غاية جهده، وبذل قصارى طاقته، لكي يصل به حمادى ما يطمح إليه من دقة في البحث ورؤية في التحقيق).
كما حرص العوامي على إخراج أعمال أعلام القطيف الراحلين ومنهم السيد علي بن السيد باقر العوامي في كتابه «جهاد قلم»، وعلي بن حسن أبو السعود في كتابيه «من أعمال أبي السعود الأدبية»، ورواية «شيخة» وهي أول رواية كتبت في المنطقة، ورغم ما تمثله من شهادة عن فترة تاريخية مهمة، فإنها لم تلق ما تستحقه من عناية النقاد واهتمام المثقفين سواء في القطيف أو في غيرها، وهي جديرة بأن تسلط عليها الأضواء لأهميتها الأدبية والاجتماعية والتاريخية، وهناك أعمال أخرى اهتم بها أكثر من اهتمامه بإنتاجه الشخصي، وكانت له - إضافة إلى ذلك - عناية خاصة بترجمة وتحقيق بعض كتب المستشرقين، ذات العلاقة بالمنطقة والخليج، ومنها كتابه المطبوع «يوميات رحلة عام عبر الجزيرة العربية من القطيف إلى ينبع» للقبطان البريطاني جون فوستر سادلين.
كما جمع بعض ما سبق أن نشره من مقالات في الصحف في كتابين هما «رحلة يراع» و«قطوف وحروف» وله أيضاً كتاب «عيون القطيف: الفردوس الموؤود» إلى جانب ديوانيه «شاطئ اليباب» الصادر عن مطابع الفرزدق بالرياض عام 1412 هـ وديوان «ينابيع الظمأ» الصادر عن دار أطياف بالقطيف عام1437هـ، وله العشرات من الأبحاث والدراسات الأدبية والتاريخية المنشورة في أعداد كثيرة من مجلة «الواحة» التي تطبع في بيروت، والتي تولى إدارة تحريرها ولسنوات. كما بلغ عدد الكتب التي تولى إخراجها إشرافاً وتوثيقاً وتصحيحاً ومتابعة لغيره من أدباء القطيف الراحلين، حتى الآن 15 كتاباً شعراً ونثراً، غير ما ذكرنا سابقاً، وهو عمل كبير يستغرق الكثير من وقته وجهده. وكان قبل ذلك قد شارك في عضوية بعض اللجان الثقافية في القطيف، وترأس بعضها، كما كرم من عدة جهات رسمية وأهلية، وتحدث عن حياته وشعره ونثره كثير من النقاد، وما زال يواصل نشر مقالاته أسبوعياً عن أحداث وشخصيات القطيف وغيرها عبر صحيفة «صبرة» الإلكترونية.
أبو أحمد أطال - الله في عمره - رفيق سفر لا يضاهى، بأحاديثه الشيقة، وملاحظاته التي تأتي دائماً عفوية لكنها في الصميم؛ ذات يوم كنا في الطريق إلى القصيم، فتحدثت عن القصيم وأهلها، وما أن انتهيت من كلامي حتى سرد من المعلومات عن القصيم ما يفوق تصوري، وقد أدهشني إلمامه بهذه المعلومات عن القصيم ورجالها المعروفين، خاصة أولئك الذين هو على علاقة شخصية بهم، من أدباء وشعراء ومثقفين.
في قصيدته «بين القطيف والقصيم» قال متأثراً بمحاضرة - كان هو أحد حضورها - للدكتور عبد الرحمن الشبيلي عن الشاعر السفير محمد الفهد العيسى:
أسلت ندى الحروف على لساني)
وحركت اليراعة في بناني
فكدت تعيد فيّ - أبا طلال -
شباباً قد تيبس في كياني)
فأجابه أبو طلال - رحمه الله -:
لأنتم في زيارتكم شهود)
على أن القرابة توأمان
أ عدنان لنا في «الخط» دار
وأنتم في القصيم ذوو المكان)
والقصيدتان في ديوانه «ينابيع الظمأ»
عندما نكون في البحرين في مناسبات معارض الكتب، أو غيرها من المناسبات الثقافية.. أجد له فيها أصدقاء كثيرين، وعندما يتحدث أبو أحمد عليك الصمت والاستمتاع بحديثه الثري الجميل، عن الأدب والثقافة والتاريخ، والأحداث التي كان شاهداً عليها، وخاصة تلك التي تتعلق بالقطيف وقرارها.
ورغم ازدحام جدوله اليومي بالكثير من المهمات العائلية والثقافية، فإنه دائم الحضور للفعاليات الثقافية في المناطق الأخرى إذا دعي لها، تقديراً منه لجهة الدعوة، ورغبة في المشاركة في المناشط الثقافية الجادة، وله مشاركات عديدة في ملتقى «مركز حمد الجاسر الثقافي» بالرياض.
يخجلني تواضعه الجم، الذي يدل على سمو الخلق، وعزة النفس، وأصالة المحتد، وقد كتب عندما أهدى لي ديوانه «ينابيع الظمأ» هذه الكلمات الرقيقة المفعمة بالوفاء والتواضع: (هدية متواضعة أزجيها لأخي وأستاذي الكبير الاستاذ خليل إبراهيم الفزيع، مؤملاً غض الطرف عنها) فلا هديته متواضعة، ولا أنا أستاذه الكبير، إنما هو الوفاء الجميل والتواضع الكبير، وهو الأكبر سناً وعلماً وثقافة ومقاماً.. وهو الأوفر إنتاجاً في الشعر والبحث والتحقيق، وله السبق المعلى في الثقافة والأدب، يوم كانت خطاي لا تزال تتعثر في هذا الميدان. ألم أقل لكم إنه التواضع، إذا غلب على طباع المرء، أنزله منزلة الكبار، وهو الكبير بأخلاقه وعلمه وثقافته.
ومن جميل شعره تلك المراثي التي تفجرت جزناً وألماً على فقد أصدقاء منحوه الحب فمنحهم الوفاء، من ذلك قوله في رثاء صديقه ورفيق دربه محمد رضي الشماسي:
(شريك الهوى هاك العويل بلا فم
رفيق المدى هاك الوريد بلا دم
إليك ضلوعي النازفات تكسرت
بها عبراتي، كيف يهمي بها فمي
ولا تلحني إن لم تنز فواصلي
ويضري بأبياتي ندا الجرح عندمي
ملاذ القوافي بعدما اغتيل نظمها
وكفن في ليل من الهم معتم
بعفوك أن تلقى لها العذر أنني
أصارع مأساتي بفقدان ملهمي).
وأقول في الختام: ما أجمل الوفاء من أهل الوفاء.
** **
- خليل إبراهيم الفزيع