من أصعب أغراض نظم الشعر على الناظم وعلى مُتلقيه أيضًا غرض (الرثاء)، ويخيّل إليَّ أن حروف الرثاء كُتبت بزفرات على نغمات من الشهقات، ولظى يخرج قيحًا، ودموعا من الصهريج الحارق تسكب على الكلمات.
وهذا النوع من الأغراض عبّرَ الشعراء والكتاب عن صعوبة نظمه، وهذا ما بينه ابن رشيق إذ قال «ومن أشد أنواع الرثاء صعوبة على الشاعر أن يرثي طفلا أو امرأة، لضيق الكلام عليه فيهما» صرح ابن رشيق بصعوبة الرثاء وأن كانت نظرته من زاوية واحدة، وقال أحمد شوقي في رثاء ابيه معبرا عن صعوبة النظم في هذا الغرض:
«سألوني لِم لم أرثِ أبي
ورثاء الأب دين أي دين
أيَّها اللوّام ما أظلمكم
أين لي العقل الذي يُسعد أين»
لقد كان شوقي مخلصًا وصادقا في رثائه، فهي كلمات لا ترجي نفعا ولا رفعة، فتغص بها الروح وتشهق بها الألفاظ، فتكون كالمنجنيق على الورق تقذف سهام كلمتها الجازعة في صدور متلقيها.
ومن شعر الحكمة في الرثاء قول الشاعر على بن محمد التهامي:
«حكم المنية في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار»
ومن المراثي المؤثرة في هذا العصر ما كتبه الشاعر نزار قباني في رثاء ابيه، وهل من لوعة تحرق القلب أسى كفراق الأب، السد المنيع والجناح الظليل:
(أنا لا يموت أبي)
أمات أبوك؟
ضلالٌ! أنا لا يموت أبي
ففي البيت منه
روائح حب... وذكرى نبي
هنا ركنه... تلك أشياؤه
تفتق عن ألف غصن صبي
كأن أبي - بعد - لم يذهب
وصحن الرماد وفنجانه
على حاله.. بعد لم يشرب»
بدأ قصيدته باستفهام إنكاري (أمات أبوك؟)، حيث أنكر قباني وفاة والده (ضلال! أنا لا يموت أبي.
قصيدة أكثرت من قراءتها، ومن تكرارها، حتى مللتها، فهي لا تأخذ من مخزون ذاكرتي كما تأخذ قصائد الحكمة والحب والمطر والمدح وكل ما ينتمي للجمال وحب الحياة، ولم تكن حروفها ثقيلة إلا من بعد فراق والدي الأبدي إلى دار القرار، حيث جاءني الخبر على غفلة مني، لم أتوقع حدوثه، فكلمات الخبر سكاكين تغرز بلا رحمة، فسرعة الموت كانت مدهشة، جعلتني في حيرة مع هذا الزائر الحتمي، وكيف يقذف سهام اختياره في لمحة بصر.
إن رحمة الله عليه كانت على ظهر الأرض، فلا يغدر ولا يحسد ولا يبغي ولا يخاف شيئا إلا الموت، الذي كان يتوق إليه رغبة في لقاء أحبته الذين غيبتهم المنون، فالأم والأب والابن والأخ سبقوه ولعل اللقاء بينهم حدث في عالم الغيب، هكذا يحدثني خيالي ويواسي حزن الفراق.
(هشيمة بعدك الأرواح والدور) هكذا هي الأيام بعد رحيلك، فلا المساء بنكهته المعتادة، ولا الصباح شاعري، هناك شيء من سكينة القبور تحف المكان، ونَوح الدُور، كل شيء له صوت النحيب.
«أبي يا أبي... إن تاريخ طيبٍ
وراءك يمشي، فلا تعتب...
على اسمك نمضي، فمن طيبٍ
شهي المجاني، إلى أطيب
حملتك في صحو عيني... حتى
تهيأ للناس أني أبي...
أشيلك حتى بنبرة صوتي
فكيف ذهبت... وما زلت بي؟»
ولعل غصة الرثاء من أقوى الغصص الذي صوره الشعراء، وفشل بعضهم في كتابة حرف واحد، فسلطة الفقد أقوى من ذخيرة الكلمات.
«إنه الفقد حين يعربد بركانه لا يطاق،
أي حرب مباغتة تنسفه؟»
** **
- رحمة القرشي