إعداد - محمد الصالح الهلال:
العوامي شخصية متعددة الوجوه في جوانب التجربة الحياتية والإبداع، لقد بدأ كادحاً في دنيا لا ترحم، كما بدأ أميا، لم يتمتع بما تمتع به قرناؤه من الأطفال من رعاية وحفاوة، وهو أدرك منذ نعومة الأظفار أنه لا مفر له من الاعتماد على الذات وتطويرها. إذا كان أقرانه وجدوا من يعبّد لهم طريق الصعود، فهو شرع في تعبيد هذه الدروب اعتماداً على النفس.
الشاعر العوامي متعدد كما ذكرنا: فهو شاهد موثوق على عصره، وهو باحث ومؤرخً ولغوي وشاعر، دخل الميدان متمنطقاً سلاح الموهبة، متقناً مزج الجرس، وتصيد جمانات المفردة الشعرية تماماً كما يفعل الصائغ الماهر مع الأحجار الكريمة. ولهذه التعددية مفارقات: فهو ذو مهارات مهنية: يتقن السباكة وصيانة الكهرباء، وهو إداري من الطراز الأول وذو ذهنية حسابية مشهود له بها. بل إنه فني تمريض قام خلال الحاجة إليه بتعلم الغسيل البريتوني.
وما أثار دهشة أصدقائه أنه دخل لعبة الحواسيب وهو على عتبة السبعين فأتقنها، بل صار يستعان به لحل معضلاتها. ومن ممهاراته أيضاً: رعايته للعمل الخيري ومتابعته واحتفاؤه بمواهب الشعراء الطالعين والشباب المتأدبين، بمراجعة إنتاجاتهم مع الابتعاد عن كل ما يشي بالادعاء و«الأستذة».
والتفت العوامي إلى مجايليه من الشعراء والمؤرخين والمترجمين، فلم يتأخر عن تقديم كل عون لهم في الطباعة والتصحيح والإخراج والنشر. جميع هذه المهارات والقدرات كان منطلقها شخص واحد لا مؤسسة. لذلك كان هذا الملف حفاوةً وتكريماً لشخص كان عطاؤه كثيراً فاستحق الكثير.
بدأت عاملاً، لذلك أحن وأتعاطف معه، لأني جزء منه، هكذا بدأ الشاعر والمؤرخ عدنان العوامي حديثه معنا عندما سألناه، ما أقرب المهن لنفسك، التي تأثرت بها طيلة حياتك، هذا السؤال وغيره من الأسئلة، كانت المدخل للغوص في تلك الشخصية، ذاك العالم المليء بالمغامرات الحتمية، القدر الذي لا يمكن الانفكاك منه، إما أن تخوضه وبكل قوة أو تكن ضعيفاً، وتنسى كأنك لم تكن، كما يقول الراحل محمود درويش، لكن الإرادة، تحضر وقوة العزيمة تشد من بنيان الطفل ليكون رجلاً، ويتحمل كل شيء رغم مرارته وقسوته، للتكوين الأول دوره، فهو لم ينشأ مرفهاً، ولم يتذوق حلاوة الطفولة، كان رجلاً منذ أن ولد، تحمل قسوة العيش الذي عاناه ووالداه، لم يصرخ إلا بشعر، فكان الصوت الذي أسكت الآهات وفتح القلوب قبل العيون على تلك الصور الشعرية، التي تحمل الحب، الأمل، الحياة، تشتاق للأماكن والأرواح، تخاطبها كما تخاطب تاروت إذ تقول: تاروتُ أينَ صَحا جَفني وأينَ غَفا/ رآكِ تَرسينَ في أهدابِه فهفا/ ضجيعةَ البحر والشطآن هل كبِدُ/ أوَتْ إليكِ، فما أورَيِتها دنفا/ وهل ترحل فيٍ الآفاق مُنْتَجِعُ../ صبابة، نِمتِ في عينَية ما وَقَفَا. معي لنستمتع برحلة الأديب الشاعر المؤرخ عدنان السيد العوامي.
- عملتَ في عدة مهن بسيطة في بداية حياتك، تشكيلك، تكوين ذلك الشاعر، المؤرخ، الأديب، عدنان العوامي؛ هل ممكن أن تحدثنا عن المحيط الذي شكل عدنان العوامي، عن الأب، الأم، وربما الجد والجدة، عن البيئة التي نشأت بها، طفولتك، كيف كانت، ومن هم أصدقاء الطفولة والشباب؟
* ولدتُ في قرية صغيرة من قرى القطيف تسمى التوبي ليلة 13 جمادى الثانية 1357هـ 9-8-1938م، والبيت الذي نشأتُ فيه موجود إلى الآن، لم يتغير، مساحته حوالي مائة متر مربع، تكوِّن دورًا واحدًا مبنيًّا من طين البحر وحجارة، تعيش فيه ثلاث أسر، هي أبي وأخواه، ومعهم زوجة جدي، أما جدي وجدتي فلم أدرك أيًّا منهما. أنا وحيد أبويّ، وأقطن معهما حجرة يسمونها دارًا، طولها خمسة أمتار، وعرضها نصف طولها، يقتطع من طولها الحمام الصغير (أو المسبَّح)، كذا يسمَّى بلهجة أهل القطيف، عرضه قرابة المتر، ويتعفف عن الأربعة الباقية لضرائره؛ السرير الأبنوس الهندي، والصندوق المبوَّت، أو الفاتِيَّة، توفيت أمي ضحى عيد الأضحى عام 1368هـ، 1949م وعمري عشر سنوات ونصف، بعد سنة من وفاة أمي تزوج أبي، فأخرجت من الدار لأتفرد بسكنى (العقد)، والعقد في لهجتنا يعني الرواق، وهو مفتوح على (الشمسة)، وهي مثله مفتوحة على الفضاء حيث لا وقاء من عوامل الطقس، البرد القارس، والمطر. في تلك السنين كان البرد يتدنى إلى درجة الصفر، والمطر، لشدَّ ته يتواصل -في بعض الأحايين- لأكثر من 15 يومًا لا يفتر لحظة، فألجأ إلى المسجد أو الحسينية، أما أيام الصيف فلا منجاة من قسوة الرطوبة والبعوض، إلا البر حيث الكثبان العالية تخفف من عنف الحر والرطوبة، وهو لا يبعد عن بيتنا إلا ثلاثة كيلومترات، زيدت نصفها بعد التحاقي بالعمل في إدارة المرفأ، وهكذا كانت رحلة النعيم والرفاه إلى أن تزوجت في 18-12-1383هـ.
أما رفاق الطفولة، فكان لي أصدقاء، منهم جاري عبدالله آل رضوان (أطال عمره) لعله يتذكر المزرعة التي عمرناها ببيزاته، وعصافيري، وسقيناها من (أبو نخيلة) أحد أنهار عين القصَير الشهيرة. وقبل أن تسألني عن حكاية المزرعة أجيبك بأن جاري عبدالله كان أهله يعطونه (خرجية) كل يوم بيزة()، وأهلي يعطوني خرجيتي بلبل أو سمنة مما يصطاده القرقور()، فاتفقنا على تقليد أهلنا بعمل مزرعة كمزارهم بجانب بيتنا، الواقع خطوات من ساقية العين.
- في أي سن تزوجت؟
* تزوجت في الخامسة والعشرين، يعني أن ثلاث عشرة سنة عشتها مشردًا في ذلك الفردوس.
- علاقتك مع والدك كيف كانت؟
* علاقتي به -والحمد لله- على أحسن ما مرام، كعلاقة أي ابن بأبيه، لكن ما كان بوسعه عمل شيء، إذ إن إمكاناته المالية كانت محدودة.
- هل رزق بأبناء بعد أن تزوج؟
* رزق بابنتين وولد توفي قبل أن يبلغ العاشرة (رحمه الله).
- في أي سن بدأت العمل؟
* بدأت العمل بعد وفاة والدتي مباشرة، وأول مهنة باشرتها هي ميزان السلوق، وهو حرفة موسمية، مرة واحدة في السنة، فبعد أن يجهز السلوق للبيع، تتكون فرق لوزنه، وفرق لنقله إلى مخازن التجار في السوق، أو الميناء على الحمير (وسيلة النقل في الطرق الزراعية آنذاك).
- ما هو السلوق؟
* السلوق هو بسر يتخذ من حمل جنس من النخل يسمى الخنيزي، يسلق بغليه بالنار ويجفف في الشمس، وهو أحد أعمدة الاقتصاد بالقطيف إلى جانب التمر، واللؤلؤ والسمك، والنقل البحري.
كان عمري عشر سنوات ونصف، يوم توفيت والدتي (رحمها الله)، وفي تلك السن دخلت رحلة الصراع مع الحياة، فالعمل يقتضيني الاستيقاظ قبل الفجر، فأداء الصلاة في بيت رئيس (العاملة) أي رئيس الفرقة، ومنه تبدأ الرحلة مشيًا على الأقدام، من بلدة إلى بلدة، والعمل يبدأ من أذان الفجر ولا ينتهي إلا بعد العشاء، فبعد صلاة المغرب تجري تصفية الحساب، ثم ننصرف لتناول وجبة العشاء، والنوم. بعد ذلك عملت في الظهران كاتبًا بدكان مواد غذائية، بريالين في اليوم.
في عام 1950م التحقت بالعمل بسكة الحديد، عامل نظافة، لمدة سنتين لدى مقاول، بعدها عملت في جمرك الدمام البري لمدة ثلاث سنوات عامل نظافة، أيضًا، في إحدى شركات القصيبي في حي من الخيام يقطنه موظفو الجمرك، والعمال والحراس، وكانت أجرتي في الفترتين أربعة ريالات في اليوم تذهب كلها في الأكل والنقل.
في سنة 1384هـ، 1964م انتقلت إلى مدينة القلعة، وفيها تعرفت لأسرة كريمة تربطني ببعض أفرادها وشيجة نسب، وربطتني بباقي أفرادها صداقة حميمة، تلك هي أسرة «آل الفارس»، فصرت أتردد على منزلهم، وعرفت، لأول مرة في حياتي، أن في الدنيا فئةً توصف بأنها (مثقفة)، تقرأ الكتب الحديثة المعاصرة. لكن ما معنى مثقفة؟ لا أدري، ولا يهمني أن أدري ما دام رفاقي هم الذين عناهم الوزير المهلبي بقوله:
ذوو خَلاقٍ وآراء مثقفة
تخالها في ظلام الليل نيرانا
في سنة 1955م التحقت بالعمل كاتبًا لدى جزَّاف (تاجر أسماك)() في القطيف، برهة قصيرة، عدت بعدها للظهران فعملت في مبنى الإدارة العامة بوظيفة مفتش نظافة (Sanitary inspector)، براتب يزيد على راتب الدمام بربع ريال، وكانت تلك الإدارة تسمى البنك؛ لأن بها إدارة المحاسبة، والخزينة، وكان لها عديد من الملحقات الخشبية (Annexes) تدخل في مسؤوليتي، إضافة إلى مبنى مجلة قافلة الزيت، وكانت بمثابة المركز الإعلامي لشركة أرامكو، إذ ترد له الصحف والمجلات من كل حدب وصوب، فكنت أتخير منها الجديد، فأحمله معي في نهاية الأسبوع إلى أصدقائي من آل الفارس. فحتى ذلك الحين لم أكن تعرفت -في مدينة القلعة- إلى أحد غيرهم، خلاف بيت عمتي.
في عام 1956م انتقلت الى إدارة مستودع الزكاة بالقطيف التابع لوزارة المالية بوظيفة حمَّال، براتب 5 ريالات في اليوم، يحسم منها نسبة 2 % طوابع، فيكون الصافي 147 ريالاً، فالحمد لصاحب النعم، الآن لا نفقات نقل، ولا مصرف طعام، فالعمل الآن خطوات من البيت، وأهم من هذا رفقة الإخوة النبلاء من آل الفارس، الحاج سليمان وابني عمه الأستاذين صالح وكمال، وهما من الشباب المثقف، وأول مرة أسمع أو أرى كتبًا لكتاب معاصرين كالعقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل، ومحمد عبدالحليم عبدالله، وكرم ملحم كرم، رأيتها بحوزتهما.
بعد سنتين أُبلِغت بأن وظيفتي قد نُسِّقت، والمعنى الصريح أنها ألغيت، وأنني مُقال، فعدت للبحث عن العمل، وفي أحد الأيام استدعاني الأستاذ سليمان الفارس، وأخبرني بشغور وظيفة بإدارة مرفأ القطيف، وكان مديره -آنذاك- شخصاً قريب النسب لي من جهة أمي، وأنه توسط لي عنده، لكنه صارحني بأنه غير متفائل لما وجده من تعنته ورفضه لقبولي بذريعة أنه لا يود أن يتهم بالمحاباة، وهي ذريعة لا أساس لها، لأن التعيين لن يكون من قبله هو وإنما من قبل لجنة بمديرية خفر السواحل بالدمام، وكل ما عليه هو أن يزودني بخطاب إلى المديرية فقط، وفعلاً صدق حدسه، فما أن دخلت على مدير شؤون الموظفين بالمديرية، حتى بدت لي نذر الرف ض في تجهم وجهه، وحين ناولته الخطاب أعاده علي مشفوعًا بعبارة: (للأسف الوظيفة شغلت!)، وهذا كذب، فقد بقيت الوظيفة شاغرة قرابة الشهرين، ثم عين بها شخص آخر، واستقال لأسباب لا أعلمها، لكن المديرية اشترطت عليه تقديم من يحل محله فأذعن المدير ودله عليَّ، فزودني بخطاب حملته إلى المديرية، وفورًا أحيل إلى لجنة مكونة من اثنين فقط طلبا مني كتابة رسالة، وبضعة أسئلة في الحساب، أجبت على بعضها إجابات صحيحة لكنها على غير قواعد الحساب الحديث، وحين استغرب أحدهم الطريقة التي اتبعتها، أجابه الثاني: (تبغيه يعمل ميزانية الدولة؟ ما دام يكتب زين، الحساب يتعلمه، شغلوا شبابنا)، وفي اليوم نفسه صدر قرار تعييني، على وظيفة كاتب دوريات، بالمرتبة التاسعة، وهذه أول وظيفة رسمية داخل ملاك الدولة (داخل الهيئة)، أما العمل الفعلي فهو كاتب منافيست Manifest)، ودوري أن أطبق محتوى المنافيست من البضائع الواردة من الخارج، وإعداد منافيست سعودي بديل، وتحويله إلى الجمرك.
- هل تعلمت القراءة والكتابة في الكتَّاب؟
* تعلمت القرآن عند المعلم، (الكتاب) في اصطلاح اليوم، ولم أتعلم الكتابة، فقد كان المعلم يعلمنا الكتابة عصر يوم الأربعاء من كل أسبوع، هذا إذا سنحت له الفرصة للجلوس معنا فهو مشغول بأعمال أخرى، وكل شخص يعلم الآخر، وفي النهاية اعتذر عن المواصلة لأن كل المتبقين في كتَّابه ثلاثة أشخاص، لذلك لم يكن حظ في تعلم الكتابة لدى ذلك المعلم، أما قصة تعلمي الكتابة فتدخل في باب الغرائب، فقد كان عمي السيد حسن (رحمه الله) يعمل في السكة الحديد، ويبدو أن فيها مدرسة لأولاد الباكستانيين، وكانت طريقة تدريس الكتابة فيها هي ذاتها المتبعة في كتاتيب القطيف، وهي أن يخط المعلم سطرًا أو بيت شعر في آخر الصفحة، ويقف الطالب يتهجاه، فإذا أتقن تلاوته جلس يكتب مقلدًا ما خطه المعلم سطرًا سطرًا، حتى يكمل الورقة، فيكتب المعلم سطرًا جديدًا في ورقة أخرى وهكذا، ومعلوم أن لغة الأردو تكتب بالحروف العربية، باختلاف طفيف لا يتعدى زيادة نقطة أو نقطتين في بعض الحروف، وخط واحد فوق خط الكاف العربي. فبعد أن أقفل المعلم مكتبه، ورفض والدي إدخالي المدرسة انصرفت للدفاتر التي كان عمي يجلبها من عمله، فصرت أقلد المكتوب فيها دون أن أفهم المعنى حتى أجدت الكتابة.
- وهل الكتب متوفرة؟
يسمي المناطقة سؤالك هذا سؤالاً تقريريًّا، يكون السائل فيه أعلم من المسؤول، فلو لم تكن الكتب متوافرة لما رأيت هذا العدد الكبير من رجال العلم كتابا وأدباء وشعراء وفقهاء، ثم كيف يتم التعلم أصلا بغير كتب يتعلمون فيها؟ نعم، إذا كان المقصود بالكتب المطبوعة فمن الطبيعي ألا تكون موجودة قبل دخول المطبعة إلى المنطقة، لكن الكتب المطبوعة على الحجر موجودة، بجانب الكتب المخطوطة.
- يبدو أن هناك اشتغالاً كبيرًا منك على اللغة، لدرجة أنك تكتب وتؤلف وتؤرخ حدثنا عن هذا.
* أجاب عن هذا السؤال شاعر قديم فقال:
إلا ترى الحبل وتردادَهُ
في الصخرة الصماء قد أثرا
فقد كانت المجالس في أيامنا هي الصالونات الأدبية، تجرى فيها المناقشات الأدبية، واللغوية، وتطارح الأشعار، فيوماً بعد يوم تنمو مدارك المتلقي، وتصقل مواهبه، وهذا ما أنا مدين به لتلك المجالس وأصحابها كالأستاذ الملا علي الطويل، والأستاذ محمد رضي الشماسي، والصديق العزيز عبدالوهاب حسن المهدي، المتوفى في حريق شب بمنزله فأتى على المنزل وما فيه ومن فيه. رحمهم الله جميعًا، يعزز ذلك ويقويه المطالعة واختيار النافع من الكتب، فمصاحبة الكتاب كانت القوت اليومي لشبيبة تلك الحقبة.
- متى بدأت تقول الشعر؟
* بدايتي كانت مع كتابة المسرحية، كتبتها لتمثل في احتفالات نادي التآلف الرياضي، وتمكني من المسرحية كان بسبب ولعي بقراءة القصة والرواية، فقد قرأت روايات كثيرة لمشاهير كتابها من أمثال نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبدالقدوس، ومحمد عبدالحليم عبدالله، من مصر، وكرم ملحم كرم، وغيرهم، ولكن بعد تعرفي على الشاعر عبدالوهاب، وكانت حجرته الصغيرة بمثابة الصالون الأدبي يرتاده أصدقاؤه، وفيهم الشاعر كالأستاذ محمد رضي الشماسي، والأستاذ محمد سعيد البريكي، والكاتب المثقف كالدكتور جميل الجشي، وعلى رأي عبدالجليل الطباطبائي:
ومَن صَحِبَ الآساد يَقتَنِصِ العُلى
وتلقى لَهُ اليُسرى يَمينًا فيَفرِس
- كيف استقبلت رأي الشاعر والأديب الراحل غازي القصيبي في شعرك؟ وهل فعلاً ما يقال إن سبب عدم بروز اسمك كشاعر هو التناطح بين الكلاسيكية والحداثة؟ وهل فكرت بتغيير اسم الديوان كما اقترح الراحل «خلخال من الرمل» أو «قصب على نفنوف الحبيبة)؟
* رحم الله غازي القصيبي، فهو -في تصوري- رأى قُبَّة فظنها مزارًا، هذا فيما يخص رأيه في شعري، إن صحَّ تسمى الخرابيش شعرًا، وأما التناطح بين الحداثة والكلاسيكية، فبقدر حبي وتقديري لغازي إلا أنني أختلف معه في الشعر، فالشعر ليس له عصر، ولا لغة، ولا جنس ولا جنسية، سبق أن أبديت رأيي في الشعر فقلت: (ومضة، أو إشراقة تنقدح من وهج الحس لحظة المخاض...). إذا قدرت أن تصف لنا العطر، وإحساسك بنشوة النغم. ما رأيك في هذه الأبيات:
بدوي: ترى الحكي صوب القلوب المصدَّة
مثل المطر فوق السحال المكفَّاة
قصيد:
وَأَمـسَـتِ الريـحُ كَـالغَيرى تُجاذِبُنا
عَـلى الكَـثيبِ فُضولَ الرَيطِ وَاللِمَمِ
يَـشـي بِـنـا الطـيـبُ أَحياناً وَآوِنَةً
يـضـيـئُنـا البَرقُ مُجتازاً عَلى أَضَمِ
وَبـاتَ بـارِقُ ذاكَ الثَـغـرِ يوضِحُ لي
مَـواقِـعَ اللَثـمِ فـي داجٍ مِنَ الظُلَمِ
يُـوَلِّعُ الطَـلُّ بُـردَيـنا وَقَـد نَسَمَت
رُوَيـحَـةُ الفَجرِ بَينَ الضالِ وَالسَلَمِ
- وما ردك على اقتراح غازي بتسمية الديوان تحت عنوان «خلخال الحبيب» بدلاً من شاطئ اليباب؟
* الدكتور لم يلتفت لما في العنوان من رمز، وإلا لحل العقدة بثاقب عبقريته.
- من مقدمة العلامة حمد الجاسر، لكتاب (ذكرى مؤرخ وشاعر) يتضح أن علاقته متينة بأدباء المنطقة، وأهل المنطقة، فمتى بدأت؟ ومن المبادر لها أنتم؟ أم العلامة حمد الجاسر؟ وهل ممكن أن تضع تاريخاً محدداً لها، وتصفها لنا كيف كانت؟
* تعرف الشيخ الجاسر (رحمه الله) على القطيف عام 1364هـ/1945م، إبَّان عمله مشرفًا على التعليم بمدارس أرامكو لأبناء موظفيها وعمالها السعوديين، فكان يتردد على القطيف دون أن يختلط بأحد من أدبائها، ويرتاد مكتباتها، خصوصًا مكتبة علي الكسار، فقد اشترى منها كتاب (الراموز) في اللغة، وهو النسخة الوحيدة، وأذكر أنه في إحدى زيارات له أخبرني بأنه رأى النسخة الأصلية من مخطوطة (سلافة العصر- في محاسن الشعراء بكل مصر) لابن معصوم المدني، وهي نسخة المؤلف الأصلية، وفي أعلاها ختمه، وكتابات أخرى بخطه، في مكتبة الحاج مهدي الجشي، وسألني إن كان بوسعي الحصول على نسخة مصورة منها، وللأسف فشلت كل محاولاتي مع من آلت إليه تلك المكتبة.
أما بداية صلته بأدباء القطيف فيذكر السيد علي العوامي عن بداية معرفته به أنَّ خالدًا الفرج اصطحب -في أحد الأيام- الشيخ الجاسر إلى مجلس الأديب أحمد بن حسين السنان، أحد مؤسسي نادي العروبة في البحرين، وكان بمثابة الصالون الأدبي لمثقَّفي القطيف، والمعروف أن الشيخ (رحمه الله) قليل العناية بهندامه، ولم يكن معروفًا لدى مرتادي ذلك المجلس إلا من خلال ما يقرؤون له من كتب ومقالات، وتعمَّد خالد ألا يُعرِّف بالشيخ، فلم يزد الحاضرون على أن ردَّوا السلام والتحية المعتادة، ولم يولوا الشيخ ما يستحق من الترحيب والحفاوة، وعند ما همَّ الفرج بالانصراف، ونهض الشيخ معه فاجأهم بالتعريف به، فنهضوا جميعًا للترحيب به معتذرين إليه عن التقصير في الاحتفاء به، ولم يسمحوا له بالانصراف إلَّا بعد أن تناول معهم الغداء، فكانت هذه بداية لصداقة متينة استمرت مدة حياته.
- في أي مرحلة كانت العلاقة أقوى ومتى ضعفت، وما أسباب الضعف إن وجد؟
* لم تضعف في أي وقت من الأوقات.
- وهل كان هناك تواصل مع أدباء المناطق الأخرى، أو فقط مع حمد الجاسر
* تواصل أدباء القطيف ثقافيًّا بالمنطقة الغربية والوسطى حديث نسبيًّا، حيث لم يبدأ إلا بعد نشوء الصحافة فيهما، وأما قبل ذلك فكانت العلاقة قائمة بينها وبين العراق، فكما هو معروف أن السفر في الصحراء وسيلته الجمال، وهي ليست من وسائل النقل لسكان القطيف. نعم هناك تواصل تجاري، نقل بري يقوم به البدو، لأن القطيف كانت الميناء الوحيد الذي يزود الداخل يما يحتاج من المؤن، لكنه محصور في هذا النشاط وحسب، أما النشاط الثقافي فوجهته العراق، لأسباب عديدة منها وجود الحوزات العلمية ومراقد الأئمة من أهل البيت النبوي (صلى الله عليه وآله)، أضف إلى ذلك سهولة السفر بحرًا إلى البصرة، أو عن طريق المحمرة، وعبادان في أحيان قليلة.
- المهن الكثيرة التي مارستها، ما تأثيرها عليك، وأكثرها قرباً لنفسك، وهل كان لشخصية ما قابلتها أو عملت معها بتلك المرحلة تأثير على مسيرة حياتك المهنية والأدبية؟
* بصراحة المهنة التي أشعر بتأثيرها عليَّ، هي فترة عملي عامل نظافة، تلك الشخصية أصبحت تلازمني طيلة حياتي؛ لذلك أجدني شديد التعاطف مع العامل، فأشعر أنه ضعيف ومظلوم مع أنه هو عنصر الحياة الأهم في حياة البشر، من هنا يشعر بعامل النظافة، وعامل الزراعة، ومن السخرية الممضة أننا في القطيف نسمي فئة من صيادي السمك (كلاب السيف).
- بالإضافة كونك شاعراً وأديباً، أنت مؤرخ، ما العقبات التي تواجهها أثناء تتبعك لموضوع تاريخي تود البحث فيه؟
* وصفي بالمؤرخ أكبر من مقاسي، فالمؤرخ -حسب فهمي القاصر- هو من يقوم بتدوين ما يعاصر من الحوادث، أما أنا فكل ما في الأمر أن لدي بعض الوثائق احتفظ بها، فأظهرها منشورة لا أقل ولا أكثر.
- ولكن كي تستكملها لا غنى لك عن المراجع، فما العقبات التي واجهتك كي تستكمل مشروعك التوثيقي؟
* صدقني لا يوجد مشروع بهذا المعنى، إنما هو أخذ من كل بحر قطرة كما يقولون. فإني أرى الوثيقة أصدق من الكتاب لخلوها من القصد أو الغرض، لأن تدوينها في الأصل لم يكن بقصد التأريخ لكنها من دون قصد مدونها تصبح تأريخًا، إما بتصحيحها لحادثة أو إضافة.
- كيف تقضي يومك؟
* اقلب السؤال ليصير: كيف يقضيني اليوم؟
فإن الإنسان تستهلكه الثواني والساعات، وتمتصه الأيام والسنون، ورحم الله السهروردي صاحب القول السائر:
المرءُ يفرحُ بالأيّام يقطَعها
وكُلّ يومٍ مضى يُدني مِن الأجل.