د.عبدالرحيم محمود جاموس
إنه سؤال غبي، يطرحه عليك كثير من الأغبياء، الذين يعتقدون أن الذكاء أصلا مرتبط بدين وآخر، أو بقومية وأخرى، أو بشعب وآخر، إنه سؤال يكشف عن وعي عنصري هابط ومقيت، وعن شخصية مهزوزة أو مهزومة، أو مفتونة بالشخصية اليهودية، ثم بالكيان الصهيوني المغتصب لفلسطين، لما يملكه من عناصر القوة القمعية والإرهابية.
الذكاء صفة انسانية عامة، مصداقا لقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}، وهنا صفة الإنسان تشمل البشر كافة منذ بدء الخليقة، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، فلم يخص به قوم ما، ويستثني قوم آخر، لكن التبابين بين الأفراد، كما بين الأقوام والمجتمعات والدول، لم يكن مبنيا يوما ما، على اساس من الجنس أو العرق أو اللون أو المعتقد، إنما هناك جملة عوامل وظروف مادية موضوعية، تتحكم في درجة التباين بين البشر أفرادا كانوا أو مجموعات، من حيث القوة والسطوة، والهيمنة والنفوذ والتفوق والذكاء، ودرجة التعلم أو التقدم، وليس لكل ذلك أي ارتباط بالعقيدة أو بالدين الذي يعتقده الفرد أو الجماعة أو الدولة.
لذا فصفة الذكاء توجد لدى اليهودي، كما هي لدى المسلم، أو المسيحي، وغيرهم من معتقدي العقائد والبيانات الأخرى.. وحتى لدى من لا عقيدة له، لأن صفة حُسنُ الخلق والتقويم، تجمع بين الجميع من بني البشر، إنها الصفة الإنسانية التي تؤكد أن الإنسان أياً كان، قد خلق في أحسن تقويم كإنسان، أينما وجد أو ولد ومهما كانت عقيدته، فالعقيدة ليست محددا من محددات الذكاء مطلقا، حتى نقول إن اليهودي أو غيره متفوقا بالذكاء على غيره لكونه فقط يهودي، فهذه نظرية عنصرية غير علمية ومرفوضة، ولا يجوز تفسير ما جرى ويجري من اغتصاب لفلسطين على أساسها، ويجري توظيفها لتحقيق حسابات مصلحية معينة، ولتبرير مواقف وسياسات تضليلية مخادعة حتى من اليهود أنفسهم.
إن أولئك المفتونين بسطوة الكيان الصهيوني، وما يمتلك من عناصر البطش والقوة والإرهاب، بل المهزومون أمامه معنويا وماديا، قد يظنون أو باتوا يعتقدون، أن كل النجاح الذي حققه الكيان الصهيوني اغتصاب فلسطين، يعزى إلى ذكاء الإنسان اليهودي كونه يهودي الديانة، وأن ما حلَّ ويَحلُ بالشعب الفلسطيني، يعود إلى غباء الفلسطينيين وغباء قياداتهم، وهذا فهم أبعد ما يكون عن الحقيقة العلمية الثابتة، وعن حقيقة ما حصل من احتلال واغتصاب لفلسطين غيره.
الذكاء صفة إنسانية تعزى للإنسان كونه إنساناً، تمييزاً له عن بقية المخلوقات، فقد عرض الخالق الأمانة على السموات والأرض فأبينَ أن يأخذنها، فأخذها الإنسان، فكان ظلوما جهولا..!
هذا الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم، تضاف إلى صفاته، صفة الظلم والجهل، وهنا يتأكد النقص وافتقاد الكمال في الإنسان، أي إنسان كان يهوديا أو غير يهودي، ولاكتمال الفطرة الإنسانية، التي فطر الله عليها الخلق من البشر وغيره وهي صفة التنازع والتدافع حول المنافع والمصالح، التي يتنازع ويتدافع عليها ولأجلها البشر، لقوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ} وهنا تتولد الحاجة البشرية للنظام وللتشريع، لضبط هذا التدافع والتنازع والتصارع بين البشر، كأفراد وفئات ومجتمعات ودول، فبات القانون الداخلي مهمته ضبط التدافع بين أفراد الدولة الواحدة، والقانون الخارجي الذي يجب أن يعنى بضبط التنازع والتدافع بين الدول، أو المجموعات البشرية.
عند تغييب القانون الداخلي تَحلُ مكانهُ الفوضى، وتكونُ الغلبةُ إذاً للأقوى، فيأكل القوي الضعيف، ويسود المجتمع قانون الغاب، ويختفي فيه السلم الأهلي والمجتمعي، وما ينطبق على الجماعة الواحدة أو الدولة الواحدة، فإنه ينطبق أيضاً على مجموع الجماعات البشرية، أو مجموع الدول، حينها يشهد العالم الحروب والنزاعات والصراعات، وتسود فيه لغة القوة، وشريعة الغاب بدلاً من لغة الحوار والنظام والقانون والشرعية والعدالة..
هذا ما يفسر لنا حصول كافة الحروب الظالمة، التي وقعت عبر التاريخ القديم والحديث والمعاصر، بلا أدنى استثناء..!
إن استبعاد لغة الحوار والنظام والقانون، وسقوط القيم الأخلاقية والإنسانية، يفسح المجال للفوضى ولشريعة الغاب أن تتحكم في واقع العلاقات بين الأفراد والجماعات وأيضا بين الدول.
إن الكيان الصهيوني المحتل لفلسطين هو نتاج الحركة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية الغربية، التي انفلت من أي قيم قانونية أو إنسانية خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، والتي استهدفت الوطن العربي وغيره من مناطق العالم، في سياق تحقيق مصالح الغرب العنصري على حساب مصالح الشعوب الأخرى، فنشأة الكيان الصهيوني في فلسطين، ليست نتاج عبقرية وذكاء الشخصية اليهودية المتميزة بل جاء نتيجة ذلك الفكر الاستعماري الغربي، يعني العكس تماماً، فهنا يكمن مطلق الغباء في الشخصية اليهودية التي توافقت وقبلت على نفسها أن تستخدم وتستغل من قبل الحركة الاستعمارية الاحلالية والعنصرية الغربية، وأن تكون أداتها في الهيمنة والنفوذ وخدمة مصالح قوى الاستعمار الغربي في فلسطين والوطن العربي.
إذاً الحركة الصهيونية التي قدمت نفسها على أنها منقذة ليهود أوربا أصلا، ما هي إلا وليدة هذا الفكر المادي الاستعماري العنصري.. فالإنسان اليهودي على يدها كان وصار وأصبحَ أولى ضحايا الصهيونية والاستثمار الغربي، وأقذر أدواتها لتنفيذ مشاريعها الاستعمارية الجهنمية القذرة، وغير القانونية والباطلة أخلاقيا وقانونيا، فخلقت وعمقت الشرخ بين الطوائف اليهودية المنتشرة في أوروبا ومجتمعاتها الوطنية الأصلية، ومن ثم امتد هذا الشرخ إلى مختلف دول العالم ومجتمعاتها الأصلية، وهذا ما عرض اليهود إلى ابشع صور الاضطهاد في دول أوروبا قاطبة، على يد الحكومات الفاشية والنازية، وعرضهم لجرائم حروب متعددة ومختلفة، كما عرضهم إلى ارهاب منظم بتخطيط وتنفيذ من تلك الدول الاستعمارية ووليدتها الحركة الصهيونية، حتى تمكنت الدول الاستعمارية من انشاء هذا الكيان الصهيوني الاحلالي العنصري الوظيفي في فلسطين وفي قلب الوطن العربي..
إن اليهودي الذكي، لازال يرفض الهجرة إلى هذا الكيان الصنيع، لأنه يدرك حقيقته ودوره ووظيفته، التي ليس فيها أي مصلحة أو خدمة لليهود، إنما هي استغلال بشع ولا أخلاقي للعنصر اليهودي المضلل والمغرر به.
لقد ظن صناع وملاك هذا المشروع الاحلالي العنصري، بناء على خلفياتهم الثقافية العنصرية أن يكون مشروعهم هذا ناجحاً، مثل تلك المشاريع التي أقاموها في العالم الجديد، في الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا، بعد أن أبادوا فيها مئات الملايين من سكانها الأصليين، ثم جرى استيعاب من بقي من سكان تلك المناطق، وجرى إنشاء دول استيطانية حديثة، تتدعي الديمقراطية والعدالة، وتتغنى بحقوق الإنسان..!
لكن الظروف التي أحاطت بنشأة الكيان الصهيوني، جاءت مختلفة جدا عن ظروف وشروط نجاح تلك النماذج الاستيطانية السالفة الذكر.
نعم لقد مرّ قرابة أربعة وسبعين عاما على نشأة الكيان الصهيوني، لكنه لم يحقق أي درجة من درجات النجاح الحقيقي التي حققتها غيره من الدول الاستيطانية، فلا زال وسيبقى وسيستمر هاجس البقاء والأمن لهذا الكيان يطارده حتى زواله وزوال وظيفته التي وجد من أجلها، السبب في ذلك ليس لما فيه من ظلم للشعب الفلسطيني وعدوانية، وأن القضية الفلسطينية قضية عادلة فقط، بل لأنه جاء أيضا في المكان الخطأ، فلسطين قلب الوطن العربي الإسلامي ومركز الكون أجمع، وليست جزيرة عزلاء منسية في أعالي البحار، يضاف إلى ذلك من أهم أسباب فشل المشروع الصهيوني هو استمرار صمود ومقاومة الشعب الفلسطيني في وطنه لهذا المشروع، فلم يستطيع الكيان الصهيوني إبادة الشعب الفلسطيني أو نفيه واسقاط هويته ؟ واسقاط هوية فلسطين مطلقا، رغم كل ما يملك من عناصر القوة المادية والدعم الغربي المطلق، ورغم إجراءات القمع والبطش والتهجير التي مارسها في حق الشعب الفلسطيني، فهاجس استمرار البقاء والأمن والوجود يلازمه ويتكرس سنة بعد أخرى...
فأي ذكاء يهودي هذا الذي يتشدق به صانعوه والبعض معهم.. وأي ذكاء يضفيه على اليهودي المفتونين بالكيان أو المهزومين أمامه..؟!
ادعوهم جميعا إلى متابعة ما يكتب وينشر من قبل ساسة ومثقفين يهود من داخل ومن خارج الكيان، عن مستقبل هذا الكيان الصنيع، وما يكتب من قبلهم عن أداء الكيان وأدواته الإرهابية سواء بواسطة اجهزته العسكرية والامنية الإرهابية وعن إرهاب مستوطنيه.
إن تشدد وتطرف النخب الحاكمة والمختلفة للكيان سواء اتسمت باليمين أو باليسار، فإنها لا تنم عند أدنى صفة من صفات الذكاء، بل تؤكد وتكرس صفة التخلف والرجعية والعنصرية، وتعبر عن العقلية الاستخدامية للشخصية اليهودية، فيما يضرها ويعرضها للخطر المستقبلي على المدى الاستراتيجي القريب.
إن أنكار الحقائق التاريخية والاجتماعية والسياسية والقانونية على الأرض الفلسطينية من قبل هذا الكيان العنصري، تعبر عن غباء مطلق لنخبه ولمستوطنيه معا، لذا فإن كل تأخير في تنفيذ التوصل إلى حل وسط مع الشعب الفلسطيني تحترم فيه حقوقه الوطنية كاملة، من حق العودة أولا إلى حق الدولة وتقرير المصير ثانيا، يسرع بلا أدنى شك من عملية إنهاء وظيفته وانهياره من الداخل مباشرة، وبالتالي يضعه في مواجهة نفس المصير الذي واجهته ووصلت إليه المشاريع الاستعمارية الاستيطانية ، سواء في المغرب العربي وخاصة في الجزائر، أو في جنوب أفريقيا، والتي قبرت والى غير رجعة.
هل يدرك قادة الكيان، وهل يدرك المستوطنون اليهود في فلسطين، سواء في مناطق الاحتلال الأولى أو الثانية هذه الحقيقة، وهل يدركون ماذا يعني تفوق عدد الفلسطينيين اليوم وفي بدايات هذا العام 2022م على عدد مستوطنيه من اليهود في إقليم فلسطين..؟!
طبعا لا يدركون.
هل يتخيل هذا المستوطن كان حاكما أو محكوما، ما هي التركيبة السكانية التي ستكون على الأرض في إقليم فلسطين بعد خمسة عشرة سنة من الآن، أو بعد ثلاثين سنة، في ظل معدل التضاعف السكاني الفلسطيني، والتناقص السكاني اليهودي لدية بسبب نضوب مصادر الهجرة، خاصة وأن حركات التوعية المناهضة للمشروع الصهيوني والمنتشرة عبر عديد من الدول قد بدأ يظهر أثرها داخل الطوائف والنخب اليهودية في الولايات المتحدة نفسها.. وبدأت تشعر هذه الطوائف بالخزي والعار والتقزز من أفعاله وممارساته..
إذا اليهودي الذكي هو الذي رفض ويرفض الهجرة إلى هذا الكيان العنصري، بل الذي يسعى أيضا للاندماج في موطنه ومجتمعه الأصلي، ويعمل على إنقاذ المتورطين المستوطنين فيه، ويعمل على تشجيعهم إلى العودة إلى مواطنهم الأصلية، التي جاؤوا هم أو آباؤهم منها، وذلك صونا لمستقبلهم ومستقبل أبنائهم وأحفادهم.
إن اليهودي الذكي هو الذي بدأ يطرح السؤال الكبير متى تنتهي (دولة إسرائيل).. كم هو العمر الافتراضي المتبقي لها..؟!
نعم مهما تدخلت عناصر الترميم والدعم والرفد والإنقاذ لإطالة عمر هذا الكيان اليهودي العنصري، لن تحول دون انهياره وانفجاره من الداخل، فلا يحتاج إلى شن حرب خارجية عليه..!
هذا ما يؤكده العديد من مفكريه ومثقفيه.. الأذكياء، لكن الذين لا ينظرون للمستقبل بعين فاحصة وعقل متنور.. يغرقون في بحرِ تطرفهم وإرهابهم، واستمرار إنكارهم للشعب الفلسطيني ولحقوقه، ليسرعوا في استحضار الانهيار غير المنظم للكيان.
بعد هذا العرض اعتقد أنه تضمن الإجابة على سؤال العنوان وبشكل مفصل.. فأجيب بنعم كبيرة انني وكل فلسطيني نحن أذكى من اليهودي الذي تورط وغرر به، وجاء ليشارك في عملية احتلال واستيطان واغتصاب فلسطين من نهرها إلى بحرها.
هنا أتوجه بالدعوة الإنسانية الصادقة، لكل يهودي مستوطن في فلسطين سواء في منطقة الاحتلال الأولى أو الثانية، أن يسعى لاستعادة مواطنته في بلده الأصلي الذي قدم منه هو آباؤه. وأولهم اليهود العرب.. وذلك ليضمن كلٌ مستقبلاً زاهراً وآمناً لأولاده وأحفاده، حيث لن يعمر هذا الكيان أكثر من مدى العقود الثلاثة القادمة، هذا ليس مجرد تمنيات، بل هو قراءة واعية وموضوعية مستقبلية، تأخذُ بعين الاعتبار ما يحصل من جملة متغيرات دولية وإقليمية من جهة، ومن تغيرات على أرض الواقع في إقليم فلسطين سواء تغيرات ديمغرافية وسياسية وكفاحية، ستفرض النهاية الحتمية لهذا الكيان.