زكية إبراهيم الحجي
عندما تخلع الشمس بردتها عن كنوز مدفونة في تاريخ الأدب الجاهلي.. وعندما نغوص في أحشاء بحور الشعر نتصيَّد الدرر المكنونة من قصائد تشع سحراً وجمالاً وإبداعاً وتتشح بالطهر والعفاف.. تطالعنا مليحة الأهداب المنكسرة أسيرة الظلمة والحسرة ووحشة ليالي الأسر والقيد التي لا تغيب عنها.. تطالعنا ذات الصرخة الأبية «ليلى بنت لكيز الملّقبة بليلى العفيفة» شاعرة عذبة القوافي ساحرة البيان، ورغم ذلك لم تأخذ حقها من الشهرة والانتشار ولم تتجاوز سيرتها الإطار الجغرافي والزماني الذي صنع أحداث قصتها في العصر الجاهلي.. وبقيت حكايتها محصورة في إطار مكاني محدود وأفق معرفي ضيِّق.
ليلى بنت لكيز الشاعرة المغمورة التي لم ينصفها التاريخ والتي اشتُهرت باسم»ليلى العفيفة» في التراث العربي.. والتي أبت عليها عفتها الاستسلام لأنياب مطامع كسرى ملك الفرس وآثرت قسوة عذاب الأسر.. ما انفك لسانها يردد:
غَللوني قيدوني ضَربوا
ملمسَ العفة ِمني بالعصا
يكذبُ الأعجمُ ما يقربني
ومعي بعضٌ من حشاشات الحيا
هذه الشاعرة الجاهلية كانت -وكما يذكر تاريخ أدب الجاهلية - من أملح ما أنجبته الصحراء العربية وأجملهن خصالاً.. تقدم لخطبتها الكثير من أسياد القبائل العربية فأبت وتمنعت وآثرت البقاء في قبيلتها.. وقد ذاع خبر جمالها وعفتها وأخلاقها الحميدة حتى وصل إلى كسرى ملك الفرس فرغِب فيها ورغِبت هي عنه.. حاول إغراءها بالحُلل والحُلي فكانت المحاولة دون بلوغ المراد.. فقلب ليلى يخفق حباً لابن عمها»البرَّاق» إلا أن والدها أراد أن يزوجها بملك يُعزِّز وجاهته بين العرب.. لم تعصِ والدها وتعفَّفت من»البرَّاق»رغم تعلّقها به فغاب الحبيب عن قبيلته.. ولما كان كسرى قد خطب ليلى العفيفة ورفضته نصب لها كميناً في غفلة واختطفها ونقلها إلى فارس وهناك حاول أن يتزوجها فتعفَّفت وامتنعت ولم يزدها ترغيبه وترهيبه إلا إصراراً.. واستصرخت ابن عمها وقومها وعشيرتها لإنقاذها قائلة:
ليت للبرَّاق عيناً فترى
ما ألقى من بلاء وعناء
ولأن الصدف تلعب دوراً كبيراً في كثير من المواقف فقد سمع أحد الرعاة العرب قصيدة ليلى العفيفة فأسرع الخطى يريد ديار أهلها حتى بلغ البرَّاق وأنشده صرخة المليحة المنكسرة فوضع البرَّاق رجله في الركاب واعتلى صهوة جواده وصاح لفرسان ربيعة قائلاً «أنا البرَّاق فوق الأدهم» فتبعوه إلى ديار كسرى وكانت حرباً أتى النصر فيها بعد ضرٍ، حيث تمكَّن البرَّاق خلالها من إنقاذ ابنة عمه التي شغف حباً بها وشغفت هي به.. تولى البرَّاق رئاسة قومه بعد عودته منتصراً إلى أن توفي فرثته ليلى العفيفة بقصيدة شعرٍ موجعة ومنها هذا البيت:
يا عين فابكي وجودي بالدموع
ولا تمل يا قلب أن تُبلى بأشجان
التاريخ حافل بقصص كثير من الشعراء والشاعرات ومليء بنماذج من شخصيات لم تأخذ حقها من الانتشار في عصرنا الحالي، بل إن الكثير منا لا يعلم عنها شيئاً.. وربما لو سُئِل شاب من شباب العصر الحالي: «من هو البرَّاق أو من هي ليلى العفيفة» فقد يُجيب لا أعرف لذلك جميل أن تُخصص حصة أسبوعية في المدارس تحت مسمى»الثقافة العامة» لكل المراحل الدراسية وليس شرطاً أن تُدرج في قائمة الامتحانات، أتمنى ذلك.