أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
الشرع لا يكون شرعاً إلا إذا ورد به الخبر عن الشارع، ولا سبيل إلى الشرع البتة بغير الخبر، وما استحسنه العقل لا يكون معقولاً إذا عارض معقولاً بالشرع؛ لأن الحقائق لا يمكن أن تتعارض؛ ونحاذر من تسميته شرعاً وإن كان معقولاً؛ لأنه معقول بغير شرع فكل شرعي معقول:
أ - لأن العقل مؤمن بالشرع جملة وتفصيلاً، وليس كل عقلي شرعياً؛ لأن المعقولات منبثقة من قوانين العقل المخلوق.
أما الشرع فمنبثق من تدبير الخالق الذي آمن به العقل المخلوق، فتعالى تدبير الخالق عن أن يكون أخصَّ من قوانين العقل المخلوق، بل وجب أن يكون أعمُّ.
ب - وكل شرعي معقول؛ لأن الله صاحب الشرع خالق العقل وليس كل معقول شرعياً؛ لأن الإنسان صاحب العقل مخلوق لمنزل الشرع.
ج - وكل شرعي معقول لما ذكرنا، وليس كل معقول شرعياً؛ لأن الشرع ينافي العقول البشرية في تفصيلاته ليمتحن إيمانها به جملة.. ألا ترى أن العقل البشري بحكم قوانينه العقلية من غير الشرع قد لا يستحسن سفك دم الحيوان، أو لا يرى معقولية المسح على أعلى الخفين، أو التيمم بالتراب؛ فيأتي الشرع على غير استحسانه ابتلاء واختباراً لإيمانه بوجوب الاستسلام لشرع الله، وعلى هذا جاء قوله سبحانه وتعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (23) سورة الأنبياء و{لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (41) سورة الرعد؛ وقلت: على غير استحسانه في مثل هذه المسائل بعينها ولكنه على استحسانه من ناحية أن الإيمان بصدق الشارع وعصمته عقلاً يوجب الإيمان باتباعه جملة وتفصيلاً.. ومن هذا الجانب وجب أن نتهم الرأي في ديننا.
قال أبو عبدالرحمن: حقي عليك ألا يغرب عنك شيء من هذه الحقائق ليسهل عليك فيما بعد ذلك الإيمان بهذه الكلمة (لأبي محمد بن حزم) قال رحمه الله تعالى: (والعقل مميز بين صفات الأشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات، وتمييز المحال منها.. أما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللاً موجبة لأفاعيل الخالق، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل، وهؤلاء استدركوا بعقولهم على خالقهم -عز وجل- أشياء لم يحكم فيها ربهم (بزعمهم) فثقفوها ورتبوها، والعقل لا يوجب أن يكون الخنزير حراماً، والتيس حلالاً).
قال أبو عبدالرحمن: العقل لا يوجب ذلك، فيكون شرعاً بغير خبر، وقد يوجب أموراً لا شرع فيها، كأمور الحياة من طب، ورياضيات، فتكون معقولات بغير الشرع. فلا تظن أن اكتفاء شيخنا بالظاهر يعني إلغاء العقل (كما يتسرع المتخرصون غير المحققين من المذهبيين)؛ فأبو محمد أشد إيماناً بالعقل حيث يجب الإيمان به، وهو أمرن على استخدامه، ولكن الرجل منطقي، دقيق الملاحظة يدرك الفروق الدقيقة بين الجزئيات.
فاكتفاؤه بالظاهر لا يعني أن ما عدا الظاهر لا مفعول له، ولكنه يضع الأمور مواضعها على هذا النحو:
1 - المراد بالظاهر: ظاهر الشرع، فالاكتفاء به يعني الاكتفاء بما يسمى شرعاً. ورد ما سواه يعني المنع من تسميته شرعاً.
2 - نكتفي بالظاهر الشرعي (في رد ما يعارضه مما يظن أنه أولى منه من المعقولات بغير شرع)؛ لأن المعقول بالشرع بعض المعقولات، فلا يمكن أن ينفي معقوليته معقول آخر.
3 - للمعرفة البشرية مصادر غير ظاهر الشرع، ولكل مصدر وظيفته، ولكننا نماري في تسمية المعقول من هذه المصادر شرعياً؛ لأنه غير وارد بظاهر الشرع.. وقصارى القول إن الاكتفاء بالظاهر نتيجة للأخذ بالظاهر، وهو نتيجة حتمية لتمييز الشرعي من غيره، فالشرعي ما نطق به الشرع، وهو الظاهر، فكان ما لم ينطق به حتماً غير شرعي، وفصل القول في الجواب الشافي لهذا السؤال الملح: أيمكن فهم (مراد الله) من غير قوله أو قول رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذي يسميه ابن حزم ظاهراً؟.
قال أبو عبدالرحمن: الواقع أننا لا نفهم مراد الله من غير منطوق قوله بلغة العرب التي خاطبنا بها سبحانه وتعالى، ولهذا لزم الاكتفاء بالمنطوق، وما عداه من الأصول التي يتوسل بها أصحاب المعاني إلى مراد الله فمردودة؛ لأنها دلالة بغير اللغة، إلا أن تكون مما أوجبه الظاهر.
وفي دلالة غير اللغة من المزالق والمخاطر ما يلي:
أولاً- تكليف لما لا يطاق.
ثانياً - وإلزام لعلم الغيب والكهانة.
ثالثاً - وإيجاب للحكم بالظن الكاذب.
قال أبو محمد: فمن أسقط معاني أرادها لم يذكرها بالاسم الموضوع لها في اللغة فهذا فعل الشيطان المريد إفساد الدين، والتخليط على المسلمين لا فعل رب العالمين. اهـ.. فهذا موجز رأي أبي محمد في الاكتفاء بالظاهر نجلوه بمسألة الأصناف الستة، التي ورد فيها النص (بتحريم الربا)؛ فأصحاب المعاني: يقيسون عليها غيرها في تحريم الربا لمعنى مشترك هو مثلاً: الكيل والوزن، فإذا ثبت بمنطوق شرعي أن الكيل والوزن مقصود يناط به التحريم فذلك ظاهر، ولا معنى للقياس ثم.. وإن صح أن ذلك مجرد استنباط عقلي من غير طريق اللغة فذلك غير ظاهر، أي غير شرعي، وللانتفاع بالقسمة العقلية لما يسمى ظاهراً وغير ظاهر نقول: يدل اللفظ على مراد صحابه منه بثلاث دلالات لا رابع لها البتة:
1 - دلالة لفظية:
أ - بالنص على المسمى بأحد أسمائه، كالنص على الأصناف الربوية الستة بأسمائها.
ب - أو النص على المسمى بأحد صفاته، كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (194) سورة البقرة فهذا نص على المقصود ((من ضرب أو قتل أو نهب)) بصفته وهي الاعتداء.
2 - دلالة لفظية بالنص على المعنى دون الاسم أو الصفة، كقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} (11) سورة النساء فنص لفظا على أن الأم وارث، وأن الأب وارث، ولا وارث غيرهما.. ونصَّ لفظاً على أن للأم الثلث، فكان المعنى الضروري أن للأب الثلثين؛ لأن الباقي بالضرورة ثلثان. والأب لم ينص له على شيء، ونص على أنه وارث، فالمعنى أن له ما بقي؛ لأن ما بقي من الإرث لمن بقي من الورثة؛ فهذان ظاهران؛ لأنهما راجعان إلى النص، إما بالاسم، وإما بالصفة، وإما بالمعنى.
3 - دلالة معنوية عقلية بغير المنطوق: كالشبه، وانتفاء الفارق، وما يسمى علة، أو أمارة، أو وصفاً، فهذا غير الظاهر بالنسبة لما طريقه النقل.
نتيجة هذه التعريفات:
قررت في معنى الظاهر عند اللغويين أن الظاء والهاء والراء أصل واحد يدل على بروز، وبهذا يفسر ظاهر أبي محمد بأنه كل ما برز من اللفظ أو في التصور العقلي، وذلك بغض النظر عن مرتبة البروز من ناحية الوضوح أو الإبهام؛ فكل ما دل عليه اللفظ، وكل ما تصوره العقل فهو ظاهر، وإن كان خفياً، والظاهر عند أبي محمد ما دل بذاته؛ لأن ما جاءت دلالته من خارج ذلك اللفظ، كالدلالة على أن ما فوق أف حرام: غير ظاهر من ذلك اللفظ!؛ والظاهر عند الشافعي وأبي محمد: بمعنى النص: (أي الخطاب الشرعي) ومسوغ هذه التسمية عند أبي محمد أن النص محل الظاهر الشرعي، أي الدلالة الوضعية أو العرفية؛ وما دل عليه اللفظ فهو ظاهر، سواء احتمل إرادة غيره أم لا؟؛ وتقييد الظاهر عند الأصوليين بوجود الاحتمال لا محل له في تعريف أبي محمد؛ لأن كل لفظ مركب في اللغة على معنى، فإذا ورد اللفظ: فالمعنى الموجود في المعجمات هو ظاهر اللفظ، ولا معنى للاحتمال ثم.
إلا أن هذا المعنى المعجمي من المحتمل ألا يكون مراداً، كقوله صلى الله عليه وسلم (تقطع اليد في ربع دينار فصاعداً)؛ فالدينار لغة من الذهب، وهذا هو الظاهر، ولكن المراد الذهب والفضة بدليل الإجماع؛ فقبل معرفة الإجماع وبعده لا نزال عند قولنا إن الظاهر هو الذهب، وأن غير الذهب غير ظاهر، وبالإجماع أصبح عندنا:
أ - ظاهر غير مراد.
ب - غير ظاهر مراد.
وليس هناك ظاهر راجح أو مرجوح، بل لكل لفظ معناه في حقيقة اللغة، وإنما هناك ظاهر وغير ظاهر. والظاهر هو الراجح بإطلاق؛ إن كان مصروفاً بدليل آخر، فهذا الصارف هو (غير الظاهر) إلا أنه الراجح من ناحية (مراد المتكلم) لا من ناحية (دلالة اللفظ)، وإلى لقاء قريب إن شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
** **
كتبه لكم: (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين-