د. محمد بن إبراهيم الملحم
نعلم جميعاً أن الطلاب يسألون بعض معلميهم أحياناً لماذا ندرس هذه المادة (الرياضيات أو الكيمياء أو النحو مثلاً) وتتفاوت إجابات المعلمين باختلاف نظرياتهم الشخصية نحو المعرفة: فمن يحمل مفهوم التعلم مدى الحياة ستكون إجابته مثالية ومن لا يحمل هذا التصور سيحاول إقناع الطلاب بترابط الموضوعات وأهميتها في المستقبل، ومع أن هذا مفيد لكنه ليس الأساس الذي يجب أن نؤسس عليه وعي طلابنا نحو ما يدرسونه، ولا نلوم المعلمين لأنهم هم أنفسهم سألوا هذا السؤال سابقاً عندما كانوا طلاباً ولم يحصلوا على إجابات مقنعة في الغالب لذلك فإن من ضمن مداخل المؤسسة التعليمية الجادة في زرع مفاهيم التعلم مدى الحياة أن تقوم بسد هذه الفجوة وتقديم إجابات شافية لمعلميها في مثل هذه الأسئلة المهمة، بل تدريبهم عليها، وإني أذهب أبعد من ذلك لأتمنى أن تصنع المؤسسة من معلميها متعلمين مدى الحياة فيكون تقدمهم المهني مبنياً على تعلمهم الذاتي وقدرتهم على التعلم الذاتي، فإن حضور الدورات التي تحفّظهم المعلومات لا يكفي ليكتسب المعلم هذه المهارة بل لا بد من أفكار خارج الصندوق لتضمن المؤسسة تحسن ثقافة معلميها لتنعكس على أبنائنا الطلاب، ففاقد الشيء لن يعطيه أبداً.
نعلم أن كثيراً من ممارسات التعليم الجديدة أو مهاراته يكون التوجه في نشرها بين المعلمين من خلال الدورات التدريبية، والواقع إن مسألة «التعلم مدى الحياة» قد لا تكون الدورات التدريبية هي السبيل الأمثل لتكوينها، ومع أن الدورات عامل مشترك إلا أنها لا ينبغي أن تكون الأساس هنا، فنحن أمام حالة يقصد منها أن يكون المتدرب قد وصل إلى مستوى جيد من التعلم الذاتي وامتلك مهاراته، وهذا الهدف سيتحقق أكثر من خلال الأنشطة التدريبية الأخرى غير الدورات، مثل المهام الأدائية التي يطلب فيها من المتدرب أن يطبق مبادئ التعلم مدى الحياة في أمثلة وموضوعات متنوعة ويتم تقديم الرعاية والنصيحة له أثناء قيامه بالمهام ليتعلم «أفضل الممارسات»، وبتكرار هذه التطبيقات على المتعلم وعبر فترة من الزمن سيتأكد المشرفون على العملية التدريبية أنه امتلك المهارات المطلوبة وأصبح قادراً على تطبيقها منفرداً وهو بالتالي قادر أيضا على نشر المهارات وتقديم النصائح والتوجيهات لغيره كالطلاب مثلاً. الجميل في الأمر أن مهارات التعلم مدى الحياة قابلة للنشر الشجري بهذه الطريقة، ويقصد به أن المعلم الذي اكتسبها يدرب الآخرين عليها وهكذا، صحيح إن الجهود المطلوبة في البداية كبيرة ومرهقة لمن يتولون تدريب الفئة الأولى إلا أن نجاح الطليعة الأولى يسهم في النشر.
بالإضافة إلى التدريب لا بد أن يكون «التعلم الذاتي» محوراً تدور حوله أنشطة المؤسسة الرسمية وحوله تدندن رسائلها لتروج له وتعظم من قيمته، ويوازي ذلك كم كبير من المحتوى المرتبط بعمليات وأنشطة التعلم الذاتي، والجوائز والمسابقات، والأنشطة غير الصفية، والندوات والمحاضرات، وورش العمل والمناقشات، والمواقع الإلكترونية، فكلما تم تكثيف المحتوى الذي يخدم هذا الموضوع كانت رسالة عميقة الأثر لكل أطراف العملية التعليمية المعلم والمتعلم ومن يخدمونهما من بقية أفراد العائلة التعليمية سواء في المدرسة أو المؤسسة التعليمية ذاتها، بل إن الوالدين أيضاً بحاجة إلى أن تدمجهم المؤسسة التعليمية في رسائلها الترويجية وتوضح أدوارهم في هذا المشروع الحضاري العظيم الذي لن ينهض بأبنائهم فقط بل وبمجتمعهم واقتصادهم، إذن الإعلام التربوي لا بد أن يعطي زخماً لهذه القضية ويجعلها مرتكزاً من مرتكزات «جودة التعليم» ليخرج هذا المصطلح من مجرد المبنى المريح والكتاب المقرر جميل الإخراج كبير المحتوى والأدوات المساعدة على التدريس المتسمة بالتكنولوجيا الحديثة والمتطورة والمذهلة، كل هذا يجب أن يتأخر إلى المرتبة الثانية ليحل مكانه «التعلم الذاتي» كقيمة عليا للمهمة التعليمية التي وكلت بها المؤسسة التعليمية وجميع تفرعاتها باختلاف أنواعها وتخصصاتها ومستوياتها من الروضة إلى الجامعة.