وضعت الشريعة الإسلامية أسس التعاملات المالية بما يتكفل بحفظ حق كل أفراد المجتمع، وسنّت في ذلك الحقوق والواجبات، وأقامت الحدود لضبط التجاوزات، وقد حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - على إرساء هذه القواعد في المعاملات، فقد جاء في الحديث الشريف: (استعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأزد على صدقات بني سليم، يدعى: ابن الأتبية، فلما جاء حاسبه، قال: هذا مالكم، وهذا هدية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فهلا جلست في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً»، ثم خطبنا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم، وهذا هدية أهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقاً. والله لا يأخذ أحد منكم منها شيئاً بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلأعرفن أحداً منكم لقي الله يحمل بعيراً له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر»، ثم رفع يديه حتى رُئي بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم، هل بلغت»؟(1).
ومن فوائد الحديث: بيان حرصه - صلى الله عليه وسلم - على الرقابة الذاتية، والتحذير من استغلال مركز العمل لتحقيق مكاسب شخصية.
وفي إطار استشعار عظم المسؤولية والقيام بها يقول -صلى الله عليه وسلم -: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته. والأمير راعٍ، والرجل راعٍ على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده. فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته» (2). فالأدوار موزّعة، والمهام مقسّمة، وكلٌّ يقوم بما أوجبه الله عليه.
ومنذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - حتى عهد من بعده توسّعت الرقعة الإسلامية، وكانت الفتوحات في عهد الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قد بلغت الآفاق، فامتدت دولة الإسلام حتى جاورت أفغانستان والصين شرقاً، والأناضول وبحر قزوين شمالاً، وتونس غرباً، وبلاد النوبة جنوباً، واقتضت الحكمة وضع تنظيمات لهذه الدولة مترامية الأطراف حتى تستمر وتقوى. وقُدر لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن يكون رائد هذا التنظيم بما استوحى من نهج النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. وقد تطرأ مستجدات على أوضاع المسلمين السياسية والاجتماعية والاقتصادية بفعل احتكاكهم الحضاري بشعوب البلدان المفتوحة، ونمو الدولة المتوالي، فكان على حاكمها أن يتابع هذا التطور في النمو (3). والتفت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في بادئ الأمر إلى تنظيم مركز القوة الدافعة في بلاد العرب، ثم عمل على توثيق الروابط بين أجزاء الدولة وتأكيد تضامنها. ويمكن القول إن التطور الذي طرأ على أجهزة الحكم في عهده يعد نقلة نوعية في إطار بناء الدولة بما يتجاوز مفهوم العرب لها (4).
فهو أول من بادر إلى إرساء دعائم القوانين التجارية، وتأسيس أنظمة الوقف، وإنشاء الخزانة العامة (بيت المال)، واعتماد التقويم الهجري، وإجراء إحصاء سكاني، وتعيين ولاة لمساعدته في تطبيق هذه القوانين (5) سعياً منه إلى ترسية نظام الحكم وتجويد دعائمه.
وتتالت بعد ذلك الأنظمة وتطوراتها عبر الأزمنة حتى أعقاب الأزمة العالمية المالية، ففي عام 2008 ظهر مصطلح جديد يسمى «الحوكمة»، وكانت نشأته في بيئات الشركات المساهمة، حيث إنه يسعى إلى توفير الضمانات اللازمة للحدّ من عمليات الاحتيال، والتسبب في الأزمات المالية التي تنشأ على إثرها أزمات اجتماعية. وتعرّف الحوكمة بأنها: «نظام يتم بموجبه إخضاع نشاط المؤسسات إلى مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط المؤسسة وأهدافها وضبط العلاقات بين الأطراف الأساسية التي تؤثر في الأداء» (6).
ولم تكن المملكة العربية السعودية بمعزل عن التطورات العالمية، ففي عام 2016م انطلقت رؤية 2030، وانبثق منها برنامج التحول الوطني 2020 ضمن برامج تحقيق الرؤية، وحمل معه العديد من المبادرات الواعدة التي بلغ مجموعها 38 مبادرة، ومن أبعادها: (تعزيز التنمية المجتمعية وتطوير القطاع غير الربحي)، وتضمّن هذا البُعد: (حوكمة المنظمات غير الربحية وتصنيفها).
«وقد ساعدت الحوكمة الرشيدة على دفع عجلة الازدهار الاقتصادي الناتج من جذب الاستثمارات المحلية والدولية من خلال بناء الأطر التشريعية والتنظيمية لحفظ حقوق المساهمين والأطراف المعنية، التي حققت وجود مراجعة محكمة ومحايدة للأداء المالي دون وجود احتمالية لتعارض المصالح» (7).
وتظهر أهمية الحوكمة في إرساء قواعد العدل بين العاملين في كيانات هذا القطاع وحماية حقوقهم، وكذلك ضمان استمرار عمل منظمات القطاع غير الربحي، وحمايتها من الانهيار الذي يتسبب في خسارة أصحاب المصلحة من المؤسسين والعاملين وغيرهم، كما تحمي المنظمات من الاتهام بشتى صوره وأشكاله.لذا فمن الواجب على العاملين في هذا القطاع الإيمان بدورهم العميق تجاه الحوكمة لصيانة المنظمات ورفع إنتاجيتها.
* * *
(1) صحيح مسلم 1832.
(2) صحيح البخاري 5200.
(3) منقول بتصرف من كتاب (تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية) لمحمد سهيل طقوش.
(4) منقول من المصدر السابق.
(5) منقول بتصرف من مقال (الحوكمة الرشيدة بين الماضي والحاضر) لأمينة طاهر.
(6) مقال (الحكومة ومعايير الجودة في مؤسسات التعليم) لأحمد الكويتي.
(7) تقرير حوكمة المنظمات غير الربحية (مكين) لعام 2020.