رمضان جريدي العنزي
بذلت نفسها ووقتها لأجل غاية أسمى، ولأجل هدف أرجى، هو رعاية والدها المسن، لهذا السبب تجاوزت الأربعين عاماً ولم تتزوج! (زيلعية) لم تحبذ أن تترك أبيها فريسة العمر والمرض، التضحية عندها ليست كلمة عابرة، ولا جملة فضفاضة، ولا رواية تقرأ، أو فيلماًَ يشاهد، فضلت أن تبقى عزباء، تتعلّق بأطراف ظل أبيها، وطهر دعواته، تعيش مع أوجاعه وآلامه، وجعها على أبيها عميق لا يمكن أن تكفيه الكلمات، كانت صغيرة عندما ماتت أمها، وهو موت قصم ظهرها، وجعل الحياة عندها بلا ضفاف، أخذتها الدنيا في دوامتها، عندما تضع رأسها على الوسادة في الليل يسرع لها طيف أمها، وكيف كانت تداعب خصلات شعرها بأصابعها، لتمنحها العاطفة والأمان، في الطيف تسير مع أمها، تمسك بيدها، تشرب معها الشاي والقهوة، وتتجاذب معها أطراف الحديث، كفراشة تستلذ بالضوء، وكعصفورة ملونة بين أعشاب الخميلة الخضراء، كل يوم تقوم منذ الصباح الباكر، تعمل الفطور لأبيها، تعطيه الدواء، ثم تضعه في سريره، تغطيه بلطف، تمسح على رأسه، ثم تودعه بقبله حانية على جبينه، تذهب لعملها كعاملة إنتاج وتجميع، لتعود في آخر النهار لبيتها مرهقة متعبة، ورغم ذلك تقوم بمهامها مع والدها مرة أخرى من مأكل وملبس ودواء، في الليل تحكي معه تسليه وتؤانسه وتسرد عليه بعض القصص وأبيات القصيد لتخرجه من دائرته المرضية الضيقة إلى رحاب أوسع، وفج بهي، تنصت إليه، تحاول أن تضيء له الحيز، وتفتح له نافذة الحياة، تحزن عندما ترى ارتعاش شفتيه ويديه، ودموع عينيه، تحدثه عن التراب المعطر بالمطر، وعن نبتة الياسمين في الحديقة، عن زهرة الليمون والبرتقال، عن الريحان فوق رؤوس الرجال، عن الجبال الشامخات، عن الحارة العتيقة، عن الناس البسطاء، وأهازيج العيد، تسابق الوقت لتنسج له حكايات الفرح، وترسم في مخيلته صور أبهى وأرقى، الحزن عندها عميق حين ترى أبيها عاجزاً عن ممارسة الحياة السوية، تجاعيد وجهه، وعروقه النافرة على كفه، تدور حوله كفراشة، لكي تنعش قلبه وروحه، ولتطعمه بعضاً من الحنان، سيما وهو الرجل المخبأ في جسد مريض وغير المستعد للخروج لهذا العالم، ورغم قساوة الليل والنهار عندها إلا أنها تعلم أن أبيها ينتظرها بحنانها وعطفها، كي تزيل عنه بعض عناء الشيخوخة والعجز والمرض، لتنمحه طاقة إيجابية تساعده على مواجهة يوم جديد، ترعى أبيها، ولا تنام حتى ينام، تأتي إلى غرفته ليلاً لتتفقده ولتطمئن عليه، تعلم ما ذا يحب،ماذا يكره، ولماذا يحزن ويبكي، ولماذا يئن. إن هذه القصة الإنسانية الواقعية أثَّرت في، كونها تضحية فريدة في زمن قلت فيه الفرائد، لقد خاضت (زيلعية) صراعاً مسلحاً بالصبر، ومحافظة على قيمها النبيلة، لقد علمتنا كيف يتألم الآخرون بصمت، وهم يقدمون التضحيات الجزيلة، دون انتظار ثناء من أحد أو إشادة، إنها واحدة من النساء النبيلات جداً، والوفيات جداً، والنادرات جداً كندرة الجواهر المميزة الثمينة.